المقالاتُ، خلاصة فكر، رأي من الضروري أن نفهمه، من الممكن أن نقبله، من الجائز أن نرفضه، طالما بحثنا فيه وفندناه. التعليقاتُ الملحقةُ بالمقال ركن أساسي فيه، انعكاس لرد فعل القارئ، لمدي استثارته، مقال بلا ردود أفعال ينقصه الكثير، لو كان الوسطُ مقدراً مطالعاً. متابعة التعليقاتِ لا غني عنها، هي دراسة في حد ذاتها لمدي ثقافة المجتمع وسعة أفقه، لتقبله لكل الآراء، المخالفة منها أولاً.
من منطقِ الاهتمام بالتعليقات علي أي مقال أجدني في أحيان ليست بالقليلة مدفوعاً لقراءة المقال بقدرِ ما عليه من تعليقات، منطقٌ غيرُ مكتملِ، لكنه أصبح مقياساً لنجاحِ أعمالِ وأفلامِ بعينها، جافاها النقاد وتقبلها جمهور كاسح، رأوه من فرط سطحيتها مغيباً. لكن هل مقالات الرأي تخضع لاعتبارات السوق، الربح والخسارة؟ لا يجوز، ليست للترفيه إنما لتنشيط العقل، تليينه إن كان مركوناً. لماذا إذن تَعِجُ ببعض المقالات تعليقات غزيرة وتَشِحُ علي مقالات أخرى أكثر قيمة؟ القارئ، مع الأسف، يقرأ المقالَ من عنوانه، وكثيراً ما يحكم عليه قبل أن يقرأه، أو بعد أن يقرأ سطر ويترك اِثنين، خاصة إذا اِشتم أنه متصل بما يتصوره من الدين. هذه النوعية من المقالات توقظ لدي أكثرية من القراء نعرةً في معظمِها جاهلية، يهاجمون الكاتب، يسبونه، لمجرد الظن دون الفهم، دون التعمق. الكاتب يُعملُ العقلَ، وكثيرٌ من المعلقين غير القارئين، يعملون السِباب، التهديد، الوعيد، الدعاء بسوء العاقبة، ما ينضح بحالهم أحياناً، مدفوعين أحياناً أخري من محترفي تهييج يريدون الإيحاء بغلبة فكرهم، بجريمة التفكير، بفساد الكاتب ونشوزه، أسلوبٌ غوغائيٌ، يُقلق علي حاضر فَر ومستقبل يستحيل أن يأتي بأمل.
بنفس منطق السوق، فكما برع البعض في جذب الجمهور للشباك فقد تخصصَ بعض الكتاب في تهييج المعلقين من غير القراء، في جرهم لفخ الوقوف في طوابير التعليق، كتابٌ لا يجدوا ذاتَهم إلا إذا كَثُرَ معلقوهم، ولو بالسباب. الغَثُ يجلبُ الغثَ، من اصطادَ من؟ الكاتبُ أم المعلقُ غير القارئ؟ إنهم جميعاً ضحايا، لبيئةِ سادَها ضيقُ الأفقِ والسطحيةِ.
وإذا كان أسلوبُ كثرةِ من المعلقين من غير القارئين جاهلياً فإن العديد من الصحف العربية ولو كانت صادرة في غير بلاد العرب تَجنَحُ إلي ما يجافي حرية الرأي وبناء الثقة والتواصل مع القراء، إنها، وللغرابة، تصدر في الخارج بمنطق الداخل، إنه اللامنطق، تمنع مقالات إن هي خالفت توجهاتها، تحذف فقرات إن لم ترقها، كأن الكاتب أداة تروج لدعاواها، لم تعد منبراً للرأي الحر، إنما مجرد بغبغة لا تتوقف لغثِ الكلامِ.
الصحفُ مدارسُ للرأي والفكر، لن يتعلم مجتمع القراءة واستساغة الكَلِم في إسار صحافة أُحادية النظرة، كدوابِ مُحددة بغَماماتِ عيونُها. كم أحلم من فرط ما كتبت وما قرأت من مقالات وتعليقات، هل تتسع الصحف العربية لكل رأي، لكل فكرة، لكل كلمة؟ متي تُعلِمُ المعلقين الشتامين كيف يصبحوا قراءً؟ وقتها لن يَسُبُ معلقٌ كاتباً كدَ، فقد قرأ ووعي، أعمل عقله، لم يدفعه أحدٌ لبذاءة.
ما أشقَ إخراج الأفكار للوجود، ما أيسر البذاءة، النفاق، السير في قطيع، إلي التهلكة،،
ا.د./ حسام محمود أحمد فهمي
- آخر تحديث :
التعليقات