القضية المدهشة التي تدخل فيها الرئيس مبارك شخصياً


ما هو مستقبل أمة يعمل إعلامها بشكل حثيث على نشر الخبل والهبل والجهل بين قرائه والمستمعين إليه يوما بعد يوم على مدى عشرات السنوات؟

وصل الإعلام في مصر إلى مستوى من الإنحطاط والتردي يصعب أن نجد له مثيلا اللهم إلاً إذا عدنا إلى عهد كانت تصدر فيه جرائد مثل ?البعكوكة? المصرية، وكانت هذه نوعاً من ?صحف المسخرة? التي تجمع موادها بين السخرية والإسفاف بشكل يجذب إليها بسطاء العقول وفحشاء الغرائز الذين يتلذذون بهذا النوع من الدغدغة الثقيلة التي تحرك أجسام البغال فتضحك وتزغرد فيها عقول العصافير. ولكن حتى صحف المسخرة تلك مثل البعكوكة وغيرها هي أكثر شرفا وحرفية من السائد من صحف في مصر اليوم، فعلى الأقل كانت البعكوكة لا تقدم نفسها على غير طبيعتها. فقد كان معروفا لدى محرريها وقرائها على السواء أنها صحيفة ساخرة هزلية، أما صحف مصر اليوم فتقدم نفسها لنا على أنها صحف جادة محترمة تصدر عن مؤسسات إعلامية هائلة هادرة. وأيضاً على أنها صحف عالمية عابرة للقارات، لها طبعات تصدر في أكثر من عاصمة دولية في نفس الوقت.

الغالبية العظمى من الصحف المصرية التي تلوث الفضاء الثقافي في مصر اليوم هي ?صحف مسخرة? تتستر في شكل صحافة جادة، إذ هي تأخذ شكل الصحف بأوراقها وحبرها وألوانها وصورها، ولكنها تفتقد إلى ألف باء العمل الصحفي الجاد والحرفية الإعلامية المتعارف عليها، و ?شرف المهنة? المفترض وجوده في كل مهنة، وفي المهنة الصحفية على وجه الخصوص، باعتبارها ?السلطة الرابعة? و ?صاحبة الجلالة?. معظم هذه الصحف هي صحف إثارة متعمدة ومع سبق الإصرار والترصد، وهدفها الواضح هو إغراق غلافها بالمانشيتات العريضة التي تثير ليس فقط ?إنتباه? القارئ، بل أيضاً - وياحبذا - عواطفه الدينية أو العرقية وغرائزه الجنسية، أو كل هذه معا، مثلما رأينا منذ سنوات في أسلوب الإثارة البالغة التي اتبعتها جريدة ?النبأ? في تغطيتها لموضوع الراهب القبطي المشلوح المطرود وأخبار مغامراته النسائية، فهنا وجدت صحافة الإثارة فرصتها الذهبية في إثارة عواطف وغرائز القارئ الدينية والجنسية في نفس الوقت - في مجتمع مكبوت جنسيا متهوس دينيا معاً.
فإذا لم يمكن جمع الدين بالجنس في قضية تثير مخيلة مجتمع محروم معذب وتلهب مخيلته المريضة، فلا بأس من القنوع بقضية يمتزج فيها الدين بالحب والزواج. فهنا ايضاً نحن أمام ذلك المزيج الملتهب من الدين والجنس وإن كان هنا جنساً مشروعاً بالزواج.
وهكذا نصل إلى القضية الغريبة المدهشة التي عرضها علينا التلفزيون المصري مؤخراً - وتدخل فيها الرئيس مبارك شخصياً - وقامت الصحف بالقفز لاستغلالها باعتبارها فرصة ذهبية أخرى من فرص الإثارة التي تلبس شكل التحقيق الصحفي.. وقد أصبحت المأساة الخاصة لعائلة قبطية اختفت منها إبنتان هما ماريان وكريستين منذ عامين كاملين قضية عامة عندما تحدثت أم الفتاتين في برنامج تلفزيوني عن لوعتها لاختفاء الفتاتين وقالت أنها أبلغت الأمن المصري باختفائهما - وربما اختطافهما - منذ عامين كاملين دون أثر. ويبدو أن الرئيس المصري حسني مبارك كان يشاهد البرنامج فاتصل به آمراً البوليس بالبحث عن الفتاتين. وبعد يوم واحد عثر البوليس على الفتاتين!! فإذا بهما متزوجتان من رجلين مسلمين ولكل منهما طفل من زوجها. وأسرعت جريدة ?الأسبوع? بتقديم تحقق عن ?زواج وإسلام ماريان وكريستين? تبعته في العدد التالي (2 يناير 6002) بلقاء صحفي مع ماريان وكرستين. والقضية كما اتضح الآن هي فضيحة على عدة مستويات تعبر عن مدى الإنهيار الذي وصله المجتمع المصري اليوم.

فضيحة الأمن المصري:
اتضح الآن ان اجهزة الأمن المصري لم تفعل شيئا حيال اختفاء او اختطاف الفتاتين على مدى عامين كاملين، رغم ان عائلة الفتاتين قامت بعمل محضر رسمي باختفائهما بتاريخ 2 ديسمبر 3002، أي منذ أكثر من عامين مضت، وما أن طالب الرئيس مبارك على الهواء مباشرة بالبحث عن الفتاتين، حتى عثر عليهما البوليس في اليوم التالي! فهل ألهمت مكاملة الرئيس رجال الأمن فجأة بمكان الفتاتين؟ أم أن الأمر هو أن رجال الأمن كانوا - على احسن الفروض - متقاعسين تماما عن فعل أي شيء من أجل أم مصرية ملتاعة تبحث عن بناتها القصر؟ أو على أسوأ الفروض كان بعض رجال الشرطة على علم بمكان الفتاتين ولم يفعلوا شيئا طوال عامين؟ أليست هذه فضيحة مدوية بجميع المقاييس؟ أين هو شعار ?الشرطة في خدمة الشعب?؟ وماذا عن عشرات الآلاف من المواطنين الذين لا يدري عنهم رئيس مصر ولا يتدخل من أجلهم على الهواء مباشرة؟ كيف يحصل هؤلاء على حقوقهم وكيف يأمنون على أرواحهم وممتلكاتهم وحال جهاز الأمن المصري هكذا؟ لقد كتب الكثيرون من قبل عن تواطؤ بعض رجال الأمن مع المتطرفين الإسلاميين في حملة أسلمة الفتيات المسيحيات. فكيف يفسر لنا الأمن المصري هذه المهزلة الأخيرة؟

فضيحة العدالة والقانون:
الفضيحة الأكثر بؤساً هي تلك المتعلقة بحالة القانون والعدالة في مصر اليوم، فالواقع المؤلم يكشف لنا أن إحدى الفتاتين على الأقل كانت قاصراً لم تبلغ السادسة عشر من عمرها عندما إختفت، ليتضح بعد ذلك ان سائق الحافلة الذي كان من المفروض ان يكون أمينا على نقلها كتلميذة من والى مدرستها هو المسئول عن إختفائها - حيث دبر هو ورجل آخر الهروب مع الفتاتين إلى بلدة أخرى ثم من بلد إلى بلد حتى نصحهما البعض بضرورة الزواج العرفي حتى لا يتعرض الرجال للمسائلة القانونية. إذن نحن أمام عملية إختطاف فتاة قاصر من قبل رجل او رجلين بالغين.
هذه جريمة يعاقب عليها القانون ولا ينفع هنا ان يقال أن الفتاة وأختها هربا بإرادتهما الحرة، فالفتاة القاصر التي لم تصل السادسة عشر لا تستطيع قانوناً ان تكون لها إرادة قانونية حرة وإنما يقرر ولي أمرها بالنيابة عنها في جميع أحوالها، والواجب هنا أن يرفض الرجل البالغ أن يأخذ الفتاة القاصر معه إلى أي مكان حتى ولو كانت راضية، بل حتى ولو طلبت هي ذلك منه. ولو وقع هذا الأمر في دولة تحترم القانون لكان البوليس قد قبض على الرجل البالغ فورا وأعاد الفتاة إلى والديها. ولكن في مصر نجد أن الأمر يستغرق عامين كاملين حتى تتكرم الشرطة بالعثور على الفتاتين بعد يوم واحد من مكالمة رئيس البلاد. ومع ذلك فما تزال الواقعة معرضة للمحاسبة القانونية حتى بعد مرور عامين فالجريمة لا تسقط بالتقادم بعد عامين، والسؤال هو لماذا لم يبادر المدعي العام برفع قضية لمحاكمة الرجل او الرجلين المتهمين في هذه الحالة؟ وهل إذا عرضت قضية إختطاف الفتاة القاصر كريستين أمام محكمة مصرية ستضمن عائلتها الحصول على العدالة؟ إن مهزلة قضية مذبحة الكشح لا تمنحنا أية ثقة في هذا. ويكشف لنا المؤرخ المصري الدكتور عبدالعظيم رمضان كيف انتشر وتغلغل المتطرفون الإسلاميون من الإخوان المسلمين في القضاء المصري حتى أنهم حكموا ضد الكاتب الكبير رجاء النقاش لأنه كتب مقالاً يعبر فيه عن رأيه في الحجاب وكيف أنه ليس فريضة. وهكذا يحكم القضاء المصري ضد أحد المفكرين المصريين الشرفاء من أجل رأي نشره في مقالة، بينما لن يحاكم أحد من أجل اختطاف فتاة قاصر ثم الزواج منها زواجاً عرفياً رغم كونها تلميذه مسيحية لم تبلغ السادسة عشر من عمرها وقت اختطافها.

فضيحة الصحافة المصرية:
القضية الثالثة التي كشفتها هذه القضية هي فضيحة الصحف المصرية التي تصدت لهذا الموضوع في شكل بالغ الإبتذال والإثارة وأبعد ما يكون عن المهنية والحرفية الصحافية. فجريدة الأسبوع تفرد صفحة كاملة بالصور الضخمة لماريان وكريستين وقد أصبح أسماهما ?حبيبة وأسماء? وهما ترتديان ملابس أقرب ما تكون بالتي كانت ترتديها الأفغانيات، ليس فقط حجاب بل عباءة سوداء كاملة من الرأس للقدمين، والموضوع كله أسئلة وأجوبة ترقص حول القضية الأساسية ولكن لا تجسر على الاقتراب منها، فالأسئلة كلها مصممة لإظهار الأمر وكأنه اختيار حر من إمرأتين مسيحيتين للدين الإسلامي. ولم يتعرض الحوار إطلاقاً لعمر الفتاتين وقت هروبهما ولا وقت زواجهما ولا وقت إشهارهما الإسلام. والمحرر الذي أجرى الحوار، واسمه أحمد عزوز، لم يوجه السؤال الأهم في الأمر كله، وهو: هل صحيح ان كريستين على الأقل كانت قاصراً لم تبلغ السادسة عشرة من عمرها يوم إختفائها مع أحد الرجلين؟ المحرر لم يسأل هذا السؤال وكأنه أمر غير ذي أهمية - رغم أنه الفرق بين الجريمة وعدمها. وتنشر الجريدة رسالة في نفس الصفحة من د. نجيب جبرائيل رئيس منظمة الاتحاد المصري لحقوق الإنسان. ونلاحظ ان الجريدة تقول عن د. نجيب انه رئيس ?ما يسمى? منظمة الاتحاد المصري لحقوق الإنسان. ونستغرب لماذا تستخدم الجريدة لغة التشكيك البذئ غير المبرر بوضعها كلمة ?ما يسمى?؟ ولماذا لم تقم بدورها الصحفي في التأكد من وجود هذه المنظمة وحقيقتها حتى لا تصفها ?بما يسمى?، وكأنه إسم على غير مسمى؟! أو كأنها منظمة غير شرعية. وفي الرسالة يقول د. نجيب جبرائيل ان الثابت هو ان محضر اختفاء كريستين وشقيقتها الرسمي هو بتاريخ 2 ديسمبر 3002 وهي من مواليد 21 فبراير 8891 أي ان عمرها وقت محضر إختفائها كان أقل من ستة عشر عاما بينما تم الاختفاء نفسه بضعة أشهر قبل كتابة المحضر الرسمي. وفي الحديث المنشور تقول إحدى الفتاتين (لا تقول لنا الجريدة من بالضبط منهما التي تتحدث وهذا من علامات الحرفية العالية للمحرر بلاشك!!) ولكن يبدو أنها الأخت الأكبر. أن الموضوع بدأ في مطلع العام الدراسي 2002 (لا نعرف عمر الفتاة الأكبر فالجريدة لم تذكر الأعمار، بينما نعرف عمر الأخت الصغرى التي قاموا باختطافها معهم والتي كانت في مطلع العام الدراسي 2002 في الرابعة عشر والنصف تقريباً إذ هي من مواليد 8891).
وخلاصة رسالة د. نجيب جبرائيل أن تواريخ الميلاد وتواريخ محاضر الشرطة عن الإختفاء، ثم ظهور محضر زواج نشرته الصحف بعد ذلك دون أن يكون له تاريخ؟؟ وبدون شاهدي عدل!! ان الزواج يعتبر باطلا قانونا إذ هو مخالف للقانون المصري وللشريعة الإسلامية وللشريعة المسيحية ايضاً. أما عقد زواج ماريان فيقول عنه أنه الآخر ينطبق عليه ما ينطبق على عقد زواج اختها كريستين من بطلان ومخالفة للقانون المصري للشريعتين الإسلامية والمسيحية. بالرغم ان هذا العقد يظهر عليه تاريخ هو نفسه تاريخ الإبلاغ عن واقعة الإختفاء والإختطاف.
كما أن الجريدة التي منحت صفحة كاملة لمقابلة ?ماريان وكريستين? أو ?حبيبة وأسماء? لم تكلف نفسها عناء مقابلة الأب والأم ونشر الحقائق من وجهة نظريهما. وهكذا تكون التحقيقات الصحفية المحايدة الباحثة عن الحقيقة وإلا فلا!

فضيحة الحريات الدينية:
قال، وأعاد علينا المسئولون المصريون عدة مرات كلما قامت ما يسمى بالفتنة الطائفية من نومها، أنهم الآن في مصر حريصون جداً على الوحدة الوطنية وخاصة في مسألة إتهام الأقباط للمتطرفين الإسلاميين باختطافهم الفتيات المسيحيات لأسلمتهن او الزواج منهن أو الأثنين معاً، قالوا أنهم الآن لا يسمحون لأحد بتغيير ديانته إلا ببلوغه سن الواحد والعشرين. فماذا حدث الآن والفتاتان لم تبلغا هذه السن؟ بل لم تبلغ أحداهن سن السادسة عشر وقت إختطافها؟

إننا نريد ان يكون المواطنون المصريون متساوين في كافة حقوق المواطنة. فليتفق المشرعون في مصر على سن قانونية يحق فيها لأي مصري او مصرية بتغيير دينه، سواء من المسيحية للإسلام او من الإسلام للمسيحية، وليعلن هذا القانون في كافة الصحف المصرية، مع إيضاح أنه لن يكون في مصر شيء إسمه ?حد الردة? يرهب من يريد التحول من الإسلام للمسيحية، وبهذا تكون الحرية الدينية مكفولة حقا لجميع المواطنين بالتساوي. أما ما يجري اليوم في مصر من مهازل مثل مهزلة ماريان وكريستين فهي فضائح مدوية للأمن وللعدالة وللصحافة وللقانون وللمسئولين كافة في مصر..

إن ما يجري يثبت أن القانون أصبح في غيبة او في غيبوبة.

إن الذين يبحثون عن شعار يعبر بصدق عن المرحلة الحالية وما فيه من غياب وإهانة للقانون وللنظام وللعدالة وللمنطق وللأخلاق وللإنضباط وللحريات يمكنهم رفع شعار واحد أوحد هو:البلطجة هي الحل!!

فرانسوا باسيلي