هدد صدام حسين في منتصف الثمانينات من القرن الماضي شعبه أمام شاشات التلفزيون قائلا( من أراد أن يحكم العراق بعدنا، عليه أن يستلم أرضا بلا شعب)؟zwj;zwj;zwj;zwj;zwj;zwj;. ولكنه لم يستطع تنفيذ تهديده بسبب إختفائه داخل حفرة العنكبوت الشهيرة،وهناك من إستلم الحكم والأرض والشعب جميعا من بعده. وعلى ما أعتقد كان صدام يقصد بتهديده الناري أنه سوف يترك العراق بلدا مدمرا وركاما بعد عين، وإلا فهو وغيره من الحكام الدكتاتوريين يعرفون جيدا أنه لا يمكن إفناء شعب بأكمله، لأن الشعوب لا تموت بتهديد من دكتاتور أرعن مهما تعاظمت قوته وتطاولت مدة حكمه.فإذا صدق حدسي وتوقعي بما قصده صدام، فأعتقد أنه نجح في تحقيق جزء من تهديده، لأنه فعلا ترك البلد مدمرا لمن جاؤا من بعده. ورغم الحجم الهائل للتدمير الذي تسبب به صدام للبلد، فإني أعتقد بأن ذلك الدمار يهون أمام دمار أكثر إيلاما وتأثيرا، وهو تغيير النفوس البشرية وتخريب المثل والقيم الأخلاقية والإجتماعية للعراقيين،وما أورثه من قيم وثقافات مشوهة لبعض النخب التي استلمت الحكم من بعده،رغم إدعاء هذا البعض بأنهم يجاهدون للقضاء على القيم والثقافات الموروثة من عهده والتي إنطبعت وتجذرت في شتى مجالات الحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية، بل وأنهم يلاحقون أيضا كل من انتمى الى ذلك العهد البائد،بهدف ما يدعون من إستئصال شأفة نظام دكتاتوري شمولي غير الكثير من القيم النبيلة في المجتمع العراقي.
ففي ظل حكم صدام تفردت قلة قليلة من أقربائه وأبناء عشيرته والمقربون منه بالسلطة،وهذه الحالة ما زالت مستمرة في ظل الحكم الجديد وإن كانت بصور مختلفة.فهناك التعيينات بتزكيات عائلية أو عشائرية في أكثر المناصب حساسية بالدولة،وهناك مسؤولون كبار ما زالوا يتصرفون بدوائر الدولة ووزاراتها وكأنها مكاتب حزبية، بل يتجرأ بعضهم بتسليم بعض المناصب المهمة التي تحتاج الى كفاءات ومؤهلات جامعية الى عناصر قد لا تكون أكملت دراسة المرحلة الثانوية تثمينا لدوره ( النضالي) مع أن فترة النضال قد ولت وأصبحت هناك مرحلة جديدة لإعادة البناء، وتحديدا إعادة بناء ما خربته الدكتاتورية خلال أكثر من أربعة عقود من الزمن. وطبعا هذه العناصر من ذوي الثقافات الضحلة لا تستوعب بعد أن تغييرا قد حصل في العراق من الدكتاتورية الى الديمقراطية وأنه أصبح للعراقيين دستورا يحكمهم،فتتصرف مع الأخرين وكأن ما جرى في العراق لايعدو تغييرا في المواقع، يذهب بهجت العطية فيأتي فاضل البراك، ويذهب البراك فيأتي من هو أشد قسوة منه، ليوزع قسوته على المعتقلين في سجون وأقبية دوائر الأمن والمخابرات الجديدة. فالقسوة المعروفة عن العراقيين والتي كنا نحسبها من نتاج الدكتاتوريات المتعاقبة على العراق،أصبحت ترتقي وتتصاعد في نفوس العراقيين وتتحكم بعلاقاتهم الإجتماعية، بعد أن أصبح الكل حزبيون. حتى العائلة الواحدة لم تسلم من ظاهرة التحزب الخطيرة هذه، فأصبحت العائلة العراقية الحالية تجمع الليبرالي والاسلامي، الشيوعي والقومي، فتفككت نتيجة حمى الإنتماءات المتهافتة للأحزاب الجديدة، الروابط العائلية بسبب تصارع الأفكار والرؤى الحزبية والسياسية.
وغير هؤلاء وأولئك هناك آخرون ينتهزون الوضع الفوضوي الحالي ليغتنوا من أموال البلد، سواء بالرشوة أو الإحتيال أو سرقة المال العام،معتقدين أنهم سوف ينجون من العقاب لأنهم قادة ومسؤولون في أحزاب فاعلة تحكم البلد أو يحتمون بهذا المسؤول أو ذاك، فأغرقوا البلد بالفساد والمفسدين.
ورغم جسامة هذا الخراب في الذمم، هناك ثقافة سلطوية مقيتة اخرى ورثناها من حكم صدام ترسخت في نفوس معظم مسؤولي وموظفي دوائر ومؤسسات الدولة وعلى وجه الخصوص الدوائر الخدمية التي لها مساس مباشر بحياة الإنسان وأعتبر هذه الثقافة السلطوية أخطر من كل ما ورثناه من ذلك الحكم الدكتاتوري المقيت، لأنها ترتبط بشكل مباشر بعلاقة الدولة بمواطنيها. فهذه الدوائر ما زالت تمارس نفس صيغ التعامل الفوقي مع المواطن، وتعتبر نفسها أبا أو وليا أو صاحب نعمة على كل مواطن يعيش في هذا البلد ويتصرف مسؤولوها مع أفراد الشعب بروحية متعالية، وكأن البلد ضيعة من الضياع الموروثة من أجدادهم. وهذا لا يحدث في أي بلد ديمقراطي في العالم.ففي تلك الدول لا يحتاج المواطن الى إرشاء مسؤول دائرة حكومية بخروف أو غزال أو بهدية ثمينة لمجرد وضع توقيعه على معاملة تعيين ولده المتخرج من الجامعة،و لا يضطر المواطن هناك لتزكية من شخص متنفذ، أو إذلال إنسانيته أمام أحد المعارف ليتوسط له في أنجاز معاملة سحب التيار الكهربائي لبيته، أو تصليح خط هاتفه المنزلي.هذه الأمور تحدث بها أسلافنا أثناء الحكم العثماني الذي أحتل معظم البلاد العربية، ولكنها تجذرت مع الحكومات(الوطنية)المتعاقبة.
لو قدر لي أن أقود هذا البلد، فأول شيء سأفعله هو إلغاء جميع دوائر الدولة الخدمية وتحويلها الى القطاع الخاص، فقد سئمنا التعامل الدوني من دوائر الدولة مع المواطنين وهي بمجملها فاشلة في أداء مهامها الرسمية فشلا ذريعا.
قبل أكثر من عشرين يوما إنقطعت الحرارة عن خط الهاتف في منزلي، راجعت دائرة التلفونات مرارا وتكرارا لإرسال فريق التصليح فلم ترسله، مع أن هذه الدائرة يفترض بها أن تخدم مشتركيها لأنهم يدفعون لها أجورا تستخدم في دفع رواتب موظفيها، وأخيرا عندما جاء موظف التصليح وهو يحمل فوق كتفه سلما لا يتجاوز طوله متران، سألته، ما إذا كانت هناك سلالم أطول لأن السلك يمر عبر الشارع وهو معرض للإنقطاع مع مرور كل شاحنة محملة في الشارع، فأجابني بأنهم لا يملكون في دائرتهم غير هذه السلالم. وبالمناسبة فأن الحد المسموح لحمولة الشاحنات داخل المدن العراقية هو بإرتفاع 5/4 متر، وسلالم دائرة التلفونات لا يتجاوز طولها متران، وهذا دليل على فشل الدائرة في خدمة مشتركيها. وطبعا هناك شركة أهلية توزع هواتف لاسلكية، هي عبارة عن جهاز صغير بهوائي لا يتجاوز طوله 20 سم من غير سلك وصل عدد مشتركيها الى حدود عشرة آلاف مشترك وتقدم خدمة هاتفية ممتازة،فإذا قارننا بين الخدمتين، فأيهما أفضل للمشترك، هاتف سلكي حكومي ينقطع في الأسبوع مرتين، أم هاتف أهلي لا تنقطع الحرارة منه أبدا؟ ثم ألم يكن جديرا بدائرة الهواتف أن تستبق القطاع الخاص في البحث عن هذا الحل البسيط لمشكلة مزمنة توارثها العراق منذ أن دخلت الخدمة الهاتفية اليه مطلع القرن الفائت؟ هذا مثال بسيط لما يعانيه المواطنون مع دوائر الدولة، التي تريد أن تمسك بتلابيب كل شيء في هذا البلد لتفرض نفسها على المواطن؟ولعل هذا هو سبب خلق الدكتاتوريات في بلداننا الشرق الأوسطية وتخلفها من كافة النواحي السياسية والإقتصادية والإجتماعية.
أعتقد أن الأمم لا ترتقي عندما تعتبر الحكومة نفسها فوق المواطن وترفض إعطاء الفرصة لبديل أفضل له،فقد فعل صدام ذلك فأورث البلد هذا الحجم الكبير من الخراب والدمار. لذلك أعتقد أنه حان الوقت لنعيد النظر في جملة من المشاكل التي يعاني منها المواطن العراقي مع دولته منذ عشرات السنين، فالتغيير الذي يطبل ويزمر له يجب أن يبدأ من داخل الحكومة ومن علاقتها بالشعب،لأن ما حصل في العراق من تغيير هائل قد لا يستوعبه الكثيرون بعد، وعلينا أن نفهم هؤلاء بأن عهدا جديدا قد بدأ، وأن من متطلبات هذا العهد الجديد إعادة النظر في علاقة الدولة بالمواطن،وصياغة عقد جديد بينهما يعيد بناء كل مفاصل الحياة من جديد، والا علينا أن نقرأ على التغيير الذي حصل،السلام.

شيرزاد شيخاني
[email protected]