كـعادتـهما دائما ً يتـواجدان قبل الآخريـن ( بو عزيز وبو علي ) ولكن هذه المرة عـرفتُ منهما إنهما يخططان لـسفـرةٍ سريعة وخاطفة لإحدى الدول المجاورة..
ألقيتُ السلام والتـحية، وجلست أتـابع ما ينويان القيام بهِ، ووضعا في عجالة سيـر الرحلـة والأماكـن التي يـزمعان بـزيارتـها وحددا مدة المكوث هناك..
إلا أن أمـرا ً أزعجهما بعض الشيء، وهو أن يضطـرا إلى تـأجيل السفرة لأن ( بو جاسم ) قـد دخل ثـالثـا ً على الخط معهما بنيــّـتـهِ المزمعة عـلى السفر معهما على شـرط أن يرتـب بعض أموره لكي يستـطيع اللحاقبهما..
سألني ( بو علي ): هل يستـحق الأمـر أن نـأجــّـل السفرة لخاطر عيون ( بو جاسم )؟؟
قلتُ له: طبعا ً يستـحق الأمر منكما التـأجيل لأنه مـلح السفرة وبدونهِ ستـفـقدان متـعة السفـر الحقيقية..
أومـأا برأسيهما دلالة على موافقتـهما الكاملة للتـأجيل، ثم قلتُ لهما
محذرا ً: ولكن عليكما أن تـتـأكـدا جيدا ً من عزمهِ على السفر معكما، لأني ما أعـرفه عن ( بو جاسم ) حماسه المفاجيء وتـراجعه المفاجيء في هذه الأمور، علاوة ً على تـرددهِ في اتـخاذ قـراراتٍ من هذا النوع، وما جعلـه يـبدو على هذه الشاكـلة معاناتـه اليوميـة بسبب متـابعتـه المباشرة خلال هذه الفتـرة لـِـبــِـنـاء منـزله الجديد، وما أربكـه أخيرا ً المشاكـل الفنية التـي رافـقـت تـركيب ( التـكييف ) مما جعلتـه تلك المشاكـل أن يتـحدث مع نفسه في بعض الأحيان، أو أن يتـحدث بشأنها تـفصيليا ً مع أي صديق يقابله فجأة..
بعد هذا الفاصل ( التـحذيري ) لهما، انظـمّ إلينا ( بو يوسف وبو خالد )، فأخرجـتُ ورقـة ً كنتُ قـد نسـخـتُ عليها حوارا ً أدبيـا ً منشورا ً في أحـد المنتـديـات الالكـتـرونيـة..
ألقى عليها ( بو عزيز ) نظرة ثم طلبها ( بو خالد ) ثم قرأها ( بو علي ) علينا وكـأنه قـد اعتـلى منبرا ً شعـريـا ً..
وحينما فرغ من قـراءتها، سألني ( بو خالد ): يا ( بو محمد ) لقد أتـعبـتـمونا بهذه اللغة الأدبية التـي تـتـطلب منا التـركيز والتـفكيـر، فهل تـتـصنعون ذلك؟؟
قلتُ له: هذه اللغة مسكـونة فينا شئـنا ذلك أم أبينـا، ولا نستـطيع الفكـاك منها لأن سحـرا ً ما يدفعنا بالبوح بها..
وكـوننا لا نتـحدث بها معك أو مع غيرك ممن لا يتـعاطون الشأن الأدبـي فهذا لا يعني بأننا لا نتـحدث بها مع مـَـن يجدون فيها متعة حقيقية..
وهذه اللغة تـستـند على موهبـةٍ حقيقية لاحظتـها في الكثير من أدبـاء المنتديات، تـدفعهم نحو الإبداع، وعليكَ أن لا تـتـعجب من هذه اللغة الشعرية التـي اقتـحمت شتى صنوف التـعبير الشعري منـطلقة من الموهبة والفطـرة، وأتـذكـر حاليا ً قولا ً للشاعر البحريني ( قاسم حداد ) في إحـدى المقابـلات الصحفيـة في هذا الصدد حيث يقول:
( رغبة الاختـراق التـعبيري عند المبدع هي ضرب من الموهبة الأساسية، وربما كانت واحدة من أهم مكونات الإبداع، وعبر التاريخ الإنساني في مجال النشاط الأدبي والفني، كان التـجديد والابتـكار لا يتـحققان بغير هذا النزوع الفطري عند المبدع، إنه في كل لحظة من التاريخ يجري تـجربة ومسئولية في هذا الاتـجاه، وعليه أن يؤكـد موهبة في التـجربة )....
وافقني ( بو علي ) الـرأي بحكم كونه يتابع دائما ً حركـة التـجديد في الشعر والأدب، ويرى بأن منتديات الحوار الشعري لا تـخلوا من الشعراء والأدباء المبدعين..
وساق لنا مثـالا ً عن الشاعر ( بشار بن برد ) يـبـيـّـن من خلالهِ قدرة الشاعر الإبداعية منذ العصور القديمة على اختـراق الجديد في عالم التـعبيـر الشعري..
من حيث أن ( بشـارا ً ) كما هو معروف عنه ينحدر من أصول فارسية، وأمـه روميـة، لذلك عايـره شعراء عصره بعدم قدرتـهِ وتـمكـنه من مقارعـة فحول الشعراء، وبأن قصائـده لا تـرقى للمكـانة الرفيعة التي وصلت إليها قصائد غيره من شعراء عصره..
فقال لهم إمهلوني شهرا ً وسآتـيكـم بقصيدةٍ أخـلــِّـد بها العصر العباسي، وستـخلد كواحدةٍ من أبدع الفنون الشعرية في تاريخ الأدب العربي، وكان مطلعها:
جـفا ودّه ُ فازورّ أو مـلَّ صـاحـبـه
وأزرى بهِ أن لا يـزال يـُــعاتـبـه
خليليّ لا تـسـتـنكرا لوعـة الهوى
ولا سـلوة المحـزون ِ شطـت حـبائـِـبـُـه
أخوك الذي إن ربــتــهُ قـال إنما
أرَبـْـتُ وإن عاتـبـتـه لانَ جــانـبـه
وإذا أنت لم تـشـرب مرارا ً على القذى
ظمـئـتَ وأيّ الـنـاس تـصـفـو مـشـاربـه
بضربٍ يذوق الموت مـن ذاق طـعـمهُ
وتـدركُ من نـجـّـى الـفـرار مـثـالـِـبــه
كـأن مـثـار النـقـع فـوق رؤوسـهــم
وأسـيـافـنا لـيـلٌ تــهـاوى كـــواكـبــه
وما كاد أن ينتـهي من إنشـاد المقطع الشعري ذاك، حتى سـأله ( بو عـزيز ): ألم يتـصل بنا قبل قليل ( بو جاسم ) ليـوافينا في الكـافيه حالا ً؟
ردّ عليه ( بو علي ): لا تـقـلق يا عزيزي، كـعادتـه تـراه الآن في الخارج يقـف عند باب المـجـمـّـع يتـحدث عن مشاكـله في البــِـناء مع صديق لـه قـد رآه صـدفــة..
محمود كرم
كاتب كويتي
التعليقات