يكثر الحديث هذه الأيام عن الفساد الإداري الذي يضرب بأطنابه في العراق بشكل لم يسبق له مثيل. ففي ظل بعض الأجواء المتاحة أمام حرية الصحافة،وفي ظل التنافس الحزبي والدعايات الإنتخابية التي وصلت في بعض الأحيان الى حد كسر العظم، أصبح الحديث عن الفساد الإداري أمرا معتادا ومسموحا به على عكس أيام النظام الزائل الذي كان غارقا حتى اذنيه في الفساد الذي كانت الدولة تشجعه عبر العديد من القرارات والقوانين كما لم يحدث في أي دولة بالعالم.فرئيس الدولة الذي يفترض به أن يترفع عن هذه الظاهرة المقيتة، كان هو رب الفساد وإمام المفسدين، فلم يكتف بتخريب ذمم أعوانه وأفراد عشيرته وعائلته وتعويدهم على السرقة من المال العام، بل كان هو بذاته يتصرف بأموال الدولة بلا شعور بالمسؤولية، فالكوكوبونات النفطية التي كان يوزعها في زمن الحصار لشراء ذمم البعض من شراذم الناس وحثالات الدول العربية والغربية بمن فيهم مسؤولون في منظمات دولية كبرى خير دليل على ما وصل اليه العراق في ظل حكمه.
روى لي صديق حادثة حصلت لأحد الوزراء.وأوردها قائلاquot; خصص صدام نثرية لأحدى الوزارات بمبلغ أربعة ملايين دينار في زمن العز العراقي.والنثرية في مؤسسات الدولة العراقية يحدد صرفها بشخص الوزير،وجرت العادة أن لا يسئل الوزير أو رئيس الدائرة عن هذه النثرية وكيفية صرفها لأنها في العادة كانت غير مشمولةبالإجراءات الحسابية أو التدقيقات المالية المعقدة كما لبقية أبواب الميزانية المخصصة للوزارة أو الدائرة،ويكون للوزير حق التصرف بها كيفما شاء حتى من دون تقديم أية مستندات بأوجه الصرف.وأراد هذا الوزير أن يبرهن لصدام إخلاصه ونزاهته وتعففه عن مد يده الى أموال الدولة فحرص على تلك النثرية ولم يصرفها إلا لماما.وفي زيارة لصدام الى وزارته تطوع الوزير لإظهار إخلاصه له بالقول أنه لم يتصرف بالنثرية المخصصة له كوزير فأبقى على الجزء الأعظم منها.وعلى عكس ما كان يتوقعه الوزير،غضب صدام منه واعتبره وزيرا فاشلا، ثم أصدر أمرا بإقالته من الوزارة!
هذه الحادثة إن صحت وأعتقدها صحيحة في حالة شخص مثل صدام الذي كان يتصرف بأموال الدولة وكأنها من مواريث أبيه،فهي تعكس حقيقة الحكم الدكتاتوري القائم على شراء ذمم الناس وشراء ولاءاتهم بأموال الدولة.
اليوم تتكرر الحالة في العراق الجديد وقد تكون بوتيرة أعلى. فقد سمعنا رئيس مفوضية النزاهة العام الماضي وهو يحدثنا على شاشات التلفزيون عن وجود ما يقرب من أربعين حالة فساد إداري تمت إحالة ملفاتها الى القضاء العراقي وهي تتعلق بالإختلاس وسرقة أموال الدولة، ولكنه عاد قبل اسبوع ليؤكد عبر وسائل الإعلام أيضا، أنه أحال 450 قضية على نفس الشاكلة الى المحاكم العراقية وجميعها متعلقة بالإختلاس من المال العام أو قبض العمولات عن صفقات العقود وما الى ذلك، وأشهر ملفات الفساد التي ما زال الحديث يجري حولها هو ملف إختلاس مليار دولار من ميزانية وزارة الدفاع العراقية في عهد إدارة حازم الشعلان، وهي القضية التي طلبت مفوضية النزاهة العراقية من الدول الأوروبية وتحديدا من الشرطة الدولية(الأنتربول) التعاون من أجل القاء القبض على المتهمين فيها خصوصا وأن معظمهم هم الآن خارج العراق.
سبق وأن تحدثت في العديد من مقالاتي عن حال دوائر الدولة في الخمسينات والستينات، قبل مجيء حزب البعث الى الحكم.حيث كانت المناصب الرفيعة وتحديدا مناصب مدراء دوائر الدولة تعطى في الغالب الى أبناء الذوات أو العائلات المعروفة في المدينة.وكان هؤلاء بسبب شهرة عوائلهم ومكانتهم الإجتماعية خاصة وأن معظمهم كانوا في العادة من وجهاء المدينة وأشرافها يمتنعون عن الإختلاس أو السرقة أو إستغلال النفوذ بسبب مكانة أسرهم وسط المجتمع، فلم يكونوا يريدون تشويه سمعة وصورة عائلاتهم وسط المجتمع باللجوء الى مثل هذه الأساليب الرخيصة التي كانت من شيم صغار النفوس، فيترفع هؤلاء المدراء ورؤساء الدوائر عن أن ينزلوا الى مستوى الضعفاء النفس،ولكن بعد أن جاء حزب البعث الى الحكم تغيرت الكثير من المفاهيم والقيم التربوية، فغلبت الإنتماءات الحزبية على الإنتماءات الإجتماعية والوجاهة، وحل الولاء للحكم محل الولاء للمجتمع.فتغيرت أحوال الناس تبعا لتلك المفاهيم المشوهة الجديدة والتي كانت من نتاج ثقافة البعث.
وقد تنفس العراقيون الصعداء عندما سقط هذا النظام الفاشي، ومنوا أنفسهم ببناء عراق جديد يعيد البريق الى الكثير من القيم والمثل الإجتماعية النبيلة التي إندثرت في العراق بسبب طول حكم البعث، ولم يتصور أحد أن يكون الوضع بعد صدام أسوأ،وأن يكون الفساد في مؤسسات الدولة أكثر استشراءا عما كان عليه في زمن الدكتاتور.
قد يكون للبعض بعض الحق في هذا الأمر.! فاذا أخذنا مقياسا مجازيا للمسؤولين الحاليين الذين يمسكون بالسلطة في عراق اليوم، نجد أن القسم الأعظم من هؤلاء كانوا يعيشون في المنافي والمهاجر الأوروبية على حساب مساعدات يسيرة تقدمها بلديات بعض المدن الأوروبية التي كانوا يقيمون فيها كلاجئين،وعندما يجد أحد من هؤلاء نفسه داخل وزارة أو وظيفة وتحت تصرفه ملايين الدولارات فلا بد أن يسيل لعابه وتضعف نفسه أمام هذه المغريات، والإنسان مجبول بضعفه أمام الأغراءات خصوصا المال، فكيف لا يسرق ويحول ما سرق الى حسابه في أحد البنوك الأجنبية؟! فهذه الأمور تبدو عادية الى حد ما في مثل هؤلاء الناس الذين لم تصف نياتهم ولم تتجذر ولاءاتهم الى وطنهم بعد أن أمضوا سنوات طويلة في ظل الحرمان والفقر في بلاد المهجر.
وليلاحظ القاريء لهذا المقال أن من مجموع الوزارات التي لها ملفات بالفساد أو التجاوز على أموال الدولة التي أعدتها مفوضية النزاهة ليس هناك وزير أو شخصية كردية متهمين بذمتهم. ولا أسوق ذلك جزافا أو لسبب تعصب قومي، فليراجع من يريد ملفات الفساد المتعلقة بدوائر و وزارات الدولة فلا يجد وزيرا كرديا واحدا إستغل موقعه بهذا الشأن، وأعتقد أن السبب يعود الى أن الوزير الكردي قد شبع عينه داخل وطنه الذي لم يغادره في أحلك الأوقات فظل ولائه للوطن أقوى من المغريات المادية، وبالتالي فهو ليس بحاجة الى السرقة من أموال الدولة والهرب بها الى الخارج،فالوزير الكردي إذا نحي أو استقال من وزارته فلن يعود الى الدولة الأوروبية التي تمتع فيها بجنسيتها،فأقصى ما يمكن أن يفعله هو أن يعود الى موطنه كردستان ليواصل حياته فيها.أم المفسدون في الحكومة العراقية فلا يهمهم البقاء في العراق بعد أن يضربوا ضربتهم الكبرى وهذا لسان حال جميع المتورطين في الفساد ونهب أموال الدولة وسيعودون الى بلدهم (الثاني!) بما خف وغلا من دون أن يخافوا من الملاحقة لأن هناك دائما من يحمي ظهره في بغداد، وقد يكون هذا الظهير شريكا له في النهيبة.!
وكما يقول البغداديون فإن (خصم الحجي) هو أنني أعتقد أن السبب الأساسي لإستشراء هذه الظاهرة، هو الجنسية المزدوجة التي يملكها الكثيرون من مسؤولي الدولة هذه الأيام، فما أن يملأ أحدهم جيبه أو حقيبته ببضعة ملايين من الدولارات تكفيه وأحفاده لعدة أجيال حتى يطلق رجليه للريح ويفر الى البلد الأوروبي الذي جاء منه،عندها سيكون من الصعب ملاحقته أو طلب إسترداده بسبب القيود القانونية التي تتحكم ببعض البلدان الأوروبية في حالة طلب تسليم شخص لبلده.
والحل بإعتقادي لهذه الظاهرة الأخذة في التصاعد يكمن في إشتراط التنازل عن الجنسية الثانية لكل من يترشح لمنصب كبير في الدولة، خاصة وأننا دخلنا مرحلة الإستقرار السياسي وإستعدنا سيادتنا،ومن العيب أن يكمن هذا الداء فينا الذي يتسبب في شماتة الكثيرين من التجربة الديمقراطية الجارية في العراق.

شيرزاد شيخاني
[email protected]