صدام حسين شخصية بارانوية , وهذه الشخصية تفسر الحدث وفق معاييرها وليس طبقا للظروف الموضوعية. كما ان الناس الذين يودون او يالفون تلك الشخصية هم اشخاص بارانويون ايضا لانهم يستوعبون ادعات هذه الشخصية بسبب معاناة ما داخل مجتمعاتهم من ضمنها ضعف الدولة التي ينتمون اليها , وهذا ماينطبق على لبنان وفلسطين , فكلا البلدين يفتقدان غياب السلطة القوية التي تتمثل بشخص دكتاتوري واحد.

ووفق هذا التفسير( للذات الجمعية ) فان الفلسطينيين واللبنانيين ينظرون اليه على أنه بطل حقيقي وهذا ناتج عن حاجة سايكولوجية , فقد استطاع صدام ان يوهم هؤلاء باعلامه الذي صرف عليه الملايين انه الوحيد القادر على تحرير الارض و توحيد الدول العربية في دولة واحدة ، وأنه أفضل العرب لرئاسة دولة الأمة العربية.
بينما يفسره العراقيون على انه بطل دموي في مسرحية تراجيدية , وانه لم ينجح في الحفاظ على العراق عزيزا كريما موحدا و لم يوفر الحرية ولم يطبق الاشتراكية في البلد الذي حكمه لأكثر من ثلاثين سنة.

وفاجاني جمع من اصدقاء فلسطينيين ولبنانيين انهم على يقين من أن صدام سيفاجا الجميع في مشهد المحاكمة , وان أوهام كثيرين ستتبدد الى حقائق مطلقة ، وهذا ديدنهم فمازالوا يبحثون عن بطل , وياللخيبة فقد وجدوه في صدام حسين. ولهذا فانهم لايبحثون في أخطائه وجرائمه فحسب بل ويجدون لها ألف سبب لتبريرها،


وسؤالي كيف يمكن لمجنون أو طاغية أن يقنع الناس بانه بطل بل كيف يصدق هؤلاء بطولاته وعنترياته وامامهم مشاهد الموت والقبور الجماعية والادلة الدامغة على ابادة الجنس البشري , ولم لا يجدون بطلهم بينهم. حتى وان خلقوه تصورا. وكيف يدور هؤلاء في (غابة العمى) , ويصبح الطاغية الذي اكل اولاده ( كما يقول افلاطون ( بطلا.

يقول علم النفس ان الشعوب يمكنها ان تبني مخيلة جمعية في لحظة مزاجية وانفعال, في محاولة لمعالجة الازمات التي فرضتها الحياة , وامعانا في تحقير ذاتها وتحقير حاكمها فتختار بطلا اخر من غير ملتها او بلدها , و تاريخ الشعوب يؤكد ذلك , واغلب ابطال الشعوب كانوا من غير ملة القوم , لكن الشعوب اتخذتهم ابطالا خرافيين تجسيدا لقلقهم الحياتي وهروبا من الشعور بالنقص وهذا ديدن الفلسطينيين فيما يتعلق بحبهم لصدام حسين وينطبق الامر على اللبنانيين ايضا.


ومرض التوحد الذي يخيل لمن يصاب به ان الامل قريب بظهور البطل المخلص بات يؤرق الكثيرين من ابناء الامة لاسيما اولئك الذين شبوا على نظريات الامة الخلاقة التي تنجب الابطال وهي الامة ذات التاريخ المجيد فحسب , وكانه تاريخ مثالي ناصع الباض لاتشوبه الهزائم ولاتسوده الدسائس واعمال السيف بالامم والشعوب.

وحتى محاكمة صدام صارت لاولئك المعجبين ملحمة بطولية فارسها ايضا ذلك البطل الخرافي , ليصبح بين القضبان اسدا سجينا , يستحق الاحترام , ومازالت عيناه ببريقها الذي يشبه نار بندقية ( الموزر ) كما غناها ذات يوم مطرب عراقي.

ولطالما اضفى هؤلاء البشر على افعال بطلهم المخلص بالضرورة فيما فعل ويفعلوه , وبالتالي فان بطلهم قد صدقهم وسيحاول البرهنة على قوة إرادته التي تفوق حتى قوانين الطبيعة وسلوك الفرسان , فامعن في التحدي يخوض المعارك تلو المعارك ليثبت لنفسه ولهم انه قدر الرهان فاحترقت بغداد ونهبت الكويت , وتهدم العراق تحت هذه العناوين.

والمفارقة ليس في ان صدام حسين كان يجب ان يكون اكثر وعيا وان يدرك الدرس الأول عندما قام بغزو الكويتrlm; , لكن الطامة الكبرى في ذلك الجمع الذي صفق له rlm; على أن النصر سيصنعه بيديه التي ذبح بهما شعبه , بل ان ذلك الجمع الذي لم يتذوق طعم الحياة تحت سوط الدكتاتور , بات يوبخ العراقيين لانهم تخلوا عن البطل المخلص واكثر من ذلك فقد صار العراقيون في نظرهم خونة.
rlm;
مهما تعددت الأحكام حول شخصية صدام حسين فإنه بالقطع لديه نوع من المرض النفسي تاجج لديه حين راى نرجسيته في عيون اولئك الذين مجدوه واحتقروا شعبه.
كان صدام تعتريه الشكوك في تصرفات وميول العراقيين ليجد في فلسطين ولبنان والاردن من هو بحاجة اليهم , وعوض عن ادبار العراقيين عنه بولاء هؤلاء له.

وبذات المعنى يمكن القول ان هؤلاء كانوا شركاء في صنع شخصيته , فهم لم يعيشوا في السجن الكبير أي العراق بل كانوا متفرجين لفيلم سينمائي يتابعون البطل ويصفقون له حين كان يهشم رؤوس ضحاياه , لكن العراقيين شركاء ايضا في مرحلة صعود صدام في السبعينات تحديداً، لكنهم اكتشفوا سذاجة الامر , ولم تكن الحشود االضخمة التي كانت تملأ الساحات تمجد صدام بعد ذلك سوى جماهير غلب على امرها , اما هؤلاء العرب فمازالو ا في الوهم بالرغم من أن الشمس قد سطعت وانحسر الضباب.

عدنان أبو زيد
* كاتب ومهندس عراقي

[email protected]