يبدو واضحا فى الفترة الأخيرة أن العلاقات الروسية-الأوروبية تقف أمام مفترق طرق صعب للغاية، وفى الوقت الذى يدور فيه صراع بين تيارين على الساحة الأوروبية فيا يخص العلاقة مع روسيا،حيث يرى الأتجاه الأقوى أن مصالح القارة الأوروبية السياسة والأقتصادية ترتبط بتحسين صلات التعاون مع موسكو،يرفض الأتجاه الأخر هذه السياسة ويدعو للبحث عن مصادر أخرى للطاقة تلغى الأعتماد على روسيا،لانقاذ القارة الأوروبية من التبعية الأستراتيجية،ويوجه هذا الأتجاه انتقادات حادة للديمقراطية الروسية.من المعروف أن 44% من الغاز الذى تستهلكه اوروبا يتم استيراده من روسيا، وهو يشكل 67 % من صادراتها إلى بلدان الاتحاد الأوروبي.ومصدر القلق الأوروبى هو رفض موسكو للمصادقة على ميثاق الطاقة الأوروبى،الذى يعتبر اتفاق التعاون بين روسيا كمصدر للنفط والغاز والاتحاد الأوروبي كمستورد لموارد الطاقة،خاصة بعد تأكيد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لقادة دول الاتحاد الأوروبي في اجتماع غير رسمي عقد في مدينة لاهتي الفنلندية أن بلاده لن تصادق على ميثاق الطاقة.
من جانبه يرى الكرملين أن تطوير صلات التعاون مع اوروبا يمكن أن يكون السبيل لتحسين مواقع روسيا على الساحة الدولية،ولجم الزحف الأمريكى على مناطق المصالح الروسية،فى أطار النظرية الروسية الداعية لتشكيل عالم متعدد الأقطاب،ويدرك الكرملين أن قطاعات واسعة من السياسيين الأوروبيين لا تتعاطف مع سياسة التقارب مع موسكو،أنطلاقا من قناعات تفيد بأن هذا التقارب سيحقق لروسيا الأمكانية لاستعادة مناطق نفوذها على حساب المصالح الأوروبية،وتحاول روسيا اضعاف مواقع هذه القطاعات المعارضة لسياساتها من خلال استثمار سلاح الطاقة الجديد.


وفى هذا السياق أعلنت روسيا أنها ستصدر ما سينتجهحقل الغاز quot;شتوكمانquot;،وهو أحد أكبر حقول الغاز في العالم ويقع في بحر بارينتس، إلى أوروبا لا الولايات المتحدة.وقد رحبت الأتجاهات الأوروبية المعتدلة تجاه التعاون مع موسكو بهذا القرار،واعربت عن رغبتها فى التوصل إلى اتفاق يكرس هذا القرار ويضمن مصداقية موسكو، مشيرة إلى أن الشركات الأوروبية مستعدة لاستثمار مليارات اليورو في روسيا ولكن يجب ان تكون على دراية بما سيحدث فيها خلال القادمة.ودعت هذه الأتجاهات روسيا للمصادقة على ميثاق الطاقة الأوروبى، ولم تمانع فى أجراء بعض التعديلات التى تراعى مصالح موسكو.واشارت إلى ان هذا لن يوقف مساعى اوروبا للبحث عن مصادر جديدة للطاقة فى آسيا الوسطى.ولعل هذه التصريحات التى جاءت عقب أعلان فرنسا وألمانيا مؤخرا عن تأسيس ائتلاف الطاقة الثنائي- ودعوة روسيا إلى المصادقة على ميثاق الطاقة للاتحاد الأوروبي- ادى لزيادة قلق موسكو تجاه اوروبا،وإزاء أمكانية بناء علاقات تعاون تخدم مصالح روسيا الدولية،بأعتبار أن مواقف الأئتلاف تعزل موسكو عن اهم حلفاءها فى القارة الأوروبية.


تأتى هذه التطورات على أعتاب الأعداد لقمة الناتو التى ستنعقد فى لاتفيا خلال الأيام القادمة،وقد حرصت قيادة الناتو على القيام بسلسلة زيارت فى مناطق الفراغ السوفيتى السابق إلى البلدان التى تعاني من النزاعات مثل جورجيا وأذربيجان وأرمينيا ومولدافيا،واستهدف الناتو من هذه الزيارات توسيع مناطق نفوذه على الحدود الروسية تحت شعار نوايا حلف شمال الأطلسى على المشاركة في جهود لحل النزاعات فى هذه البؤر الساخنة، بل ودعت قيادة الحلف هذه الدول للأنضمام لحلف الناتو.
وكان لابد أن تثير هذه التحركات قلق الكرملين،وهو ما دفع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي إلى زيارة موسكو،لتهدئة الكرملين الذى يعارض بشدة توسع الناتو شرقا وبالقرب من الحدود الروسية، والذى مازال على خلاف حاد مع الناتو حول تعديل معاهدة الحد من الأسلحة التقليدية في أوروبا،بأعتبارها من ابرز الملفات الساخنة،حيث تتهم موسكو الناتو بانه يماطل في المصادقة عليها.وتعتقد قيادة هيئة الأركان الروسية أن الناتو يستهدف من هذه المماطلة أعادة انتشار القوات الأمريكية ونقلها من غرب أوروبا إلى دول أوربا الشرقية.خاصة إنه بعد انضمام 7 بلدان من بلدان أوروبا الشرقية إلى الناتو في عام 2004 ظهرت قرب شمال غرب روسيا مناطق لا تخضع القوات العسكرية فيها لأى رقابة. ويأتي إصرار الكرملين على هذه التعديلات بعد قمة الناتو في باريس عام 2002 التي أثارت قلق موسكو،عندما أعلنت إن قبول الدول السبع المذكورة في الناتو يتم على أساس quot;معايير نوعيةquot; مخفضة لحد كبير،باعتبار أن جيوش الأعضاء الجدد عمليا غير قادرة على العمل المشترك مع القوات المسلحة الأمريكية الأوروبية.مما يعنى أن الولايات المتحدة تؤيد توسع الناتو المخالف لاعتبارات الجدوى العسكرية من أجل تعزيز مواقعها السياسية في أوروبا. أن انضمام دول جديدة إلى حلف شمال الأطلسي في ظروف عدم إبرام المعاهدة المعدلة حول الحد من الأسلحة التقليدية في أوروبا يثير قلق الدوائر العسكرية و السياسية الروسية. خاصة إن دول البلطيق التي انضمت إلي الناتو،لم تدخل ضمن نطاق التقييد التي تفرضها المعاهدة المذكورة. أما انضمام رومانيا وبلغاريا وحدهما فيؤدي إلى تعدي القيود المفروضة بالمعاهدة على انتشار الدبابات والمصفحات والمدافع.
وتعتبر هيئة الأركان الروسية أن الخلاف الذي يتفاقم في أطار استمرار الجهود المكثفة لتغيير الخارطة الجيوسياسية للعالم لا يقتصر على ملف معاهدة الحد من الأسلحة التقليدية،وإنما يتضمن أيضا عدد كبير من التهديدات الأخرى،يمكن ان تندرج ضمنها دعوات الحلف لضم كل من أوكرانيا ومولدافيا إلى عضويته، بالأضافة إلى جورجيا التي تتطلع إلى ذلك بتشجيع من المدربين الأمريكان وحماتها في واشنطن،وأذربيجان التي تسعى الولايات المتحدة إلى إقامة قاعدتها العسكرية ومحطاتها الرادارية بحجة مراقبة إيران ولكن في الواقع من أجل ترسيخ أقدامها في هذا البلد الغني بالنفط على شاطئ قزوين.


ويمكن القول أن حلف الناتو اصبح احد مواقع النفوذ للأتجاهات الأوروبية المعارضة للتقارب مع روسيا،والتى ترفض التعاون مع موسكو فى تطبيق نظرية تعددية القطب فى العالم،ليس فقط لقناعتها بأن تنامى النفوذ الروسى يهدد المصالح الأوروبية،وانما ايضا لأن هذا الحلف يتلقى دعما قويا ومؤثرا من اهم أعضاءه أى من الولايات المتحدة التى تتعارض مصالحها بالتأكيد مع التقارب الروسى-الأوروبى.

مازن عباس

موسكو