عندما أتذكر الجسر المعلق في بغداد، تقفز إلى مخيّلتي بوابة القصر الجمهوري، وأشجار النخيل الباسقة، وقوّات الحرس المدججة، وأتذكر سيارتي المهلهلة، التي لايعجبها التأتأة والفأفأة إلا هناك..في أحد أيام الثمانييات( سامحوني على هذه الدقة الزمنية) أرتجفت ساقي، وأنا أضغط على المكابح، وبالكاد وقفت أمام الإشارة الضوئية الحمراء..فالخطأ في ذلك المكان لا يغتفر، وقد يسبب لعلعة الرصاص، وتحّول المرء إلى غربال..إذاك أحسست برغبة للإلتفات إلى السيارة الواقفة على شمالي..ياللهول.. صدام حسين!! كان يجلس بمفرده خلف مقود سيارة بيضاء ( طراز مرسيدس 190)، ويرتدي ملابسه الحربية، ولفاف العنق المختفي داخل سترته الزيتونية...رفعت يدي محييا..فرشقني بابتسامة مشفقة، تشبه تلك التي تغدق بها الأم على رضيعها ( أثناء تبديل حفاظتة )..هذه الحادثة قد لاتعني شيئا؟ لكنها انطبعت في ذاكرتي، وهي تختلف عن تلك التي رواها أحد حراسه الشخصيين( الجبوري)، الذي قال مامفاده: في إحدى المرات، كنا منفرديّن، فراودتني فكرة إغتياله، ولم تمض ثوان، حتى إلتفت إليّ، وحدقني بنظرة مفزعة، دفعتني للهروب من العراق؟؟ على عكس الجبوري، فقد قضيت أعواما إضافية في العراق، أشبعت بها فضولي في مرأى القائد، بإعتباره نجم التلفزيون الوحيد، ومشاهدة جيوش الإعلاميين والشعراء والمطربين، والتعرف على العبقرية الشيعية في إلقاء ( الهوسات )وهي نوع من الأهازيج الشعبية، التي تبدأ بوضع اليد على ( الرأس) ثم تلاوة المقدمة المعروفة ( ها إخوتي ها)ثم رفس الأرض والقفز على إيقاع ميلوديا هلهولة( زغرودة) للبعث الصامد أو : صدام اسمك هزّ أمريكا...بصريح العبارة، كان الرئيس صدام، مهوى أفئدة الكثيرين، وكان الحاكم بأمره، وقد لخص ذلك نشيد وطني مطلعه: إذا قال صدام قال العراق..ورغم ذلك حافظت على مقتي لصورة الطاغية فيه. وتعززت تلك الكراهية بسبب فتحه لبوابة القادسية اللعينة، وتعمقت إثر معانقته للمك الأردني الراحل، وإطلاقهما قذيفة مدفع على إيران، في جو من الحميمية والقهقهة...كراهية ومقت وضغينة وبغضاء..كلمات لاتصف الحقيقة، لأني كنت أدفن إعجابي به، وبنظرته الحادة الشرسة، وموهبته الفذة في توظيف ملامحه وإيماءاته الجسدية، وخصوصا حركات أصابعه( الأكثر بلاغة من كلامه )..وقد تأطرت تلك الصورة الهيولية من خلال الروايات( المؤسطرة ) التي سمعتها عنه. آنذاك ربطتني علاقة باطنية ببعض الناقمين على حكمه( بما تسمح به قواعد التقيّة )كانوا أفرادا من النخبة الشيو _شيعية، وهي مزيج من بكائيات كربلائية وتراجيديا التراث الشيوعي العراقي وبطولات الأهوار وشرب العرق وقصائد مظفر النواب( الريل وحمد)..منهم عرفت أنه بدأ عام 1968 بقيادة ميليشيا( فدا ) لحزب البعث، التي اتهمت بفظاعات، كالقاء المعارضين في نهر دجلة، أو بحوادث الدهس( التي تقيّد ضد مجهول) وصولا إلى إشاعة أجواء الرعب من خلال وكلاء دمويين كأبي طبر( أبو ساطور حسب لغة أهل الشام)
وهكذا مضت السنون، وخرج العراق من الكويت، وبدأ الحصار يطبق على عنقه..في ذلك الوقت أصبحت بالصدفة شاهدا على إحدى الحوادث الغريبة، التي تصوّر مآل الدولة العراقية واستشراء الفساد، وبنفس الوقت تقدم شهادة لطبيعة صدام حسين وعنفوانه وطبيعة القانون السائد. وملخص الحادثة أن عائلة من كركوك أدخلت ابنها الشاب، مستشفى المجانين ( بالقرب من بغداد) وبعد مدة، شعر إخوته بتأنيب ضمير، فعاودوا المستشفى وطلبوا الإفراج عنه ( سيما وأن جنونه ليس مؤذيا ) لكنهم تلقوا جوابا، يشير إلى عدم معرفة المستشفى بهذا الإسم..الخلاصة أن العائلة قابلت الرئيس صدام، الذي أوعز إلى السلطات بإجراء تحقيق، سرعان ما كشف عن مأساة مرّوعة...أطرافها مدير المستشفى، وأطباء وأجهزة أمنية، حيث تم إعدام هذا المسكين( المجنون ) نيابة عن أحد عتاة المجرمين، بعد تهريب الأخير خارج البلاد،( مقابل رشوة مالية كبيرة)..ولمن يريد أن يعرف المزيد؟ فقد أمر صدام بإعدام كل الضالعين بهذه المأساة؟؟؟..واليوم وإذ نعيش فصول مأساة الإحتلال، وما حل بأهل العراق الطيبين من ويلات، أعود لأرى الرجل الذي بغضته (بإعجاب)، يحاكم أمام محكمة شكلها بريمر حسب قياس حذائه البرتقالي، (الحذاء الذي تغزل به في مذكراته الكولونيالية: سنة قضيتها في العراق، واستعمله في لبط وضرب مؤخرات بعض الساسة الجدد، على حد قوله!!) محكمة مصابة بالهزال الشرعي والقانوني، وبداء السعارالسياسي...فالحكم على صدام بالشنق ( لشخصه) وكأنه سارق خيول ( في فيلم كاوبوي) ليس مشكلة لذاتها، فكثير من الدول قد تحكم بالإعدام على زوجة تآمرت مع عشيقها في قتل زوجها..المشكلة أن الذي يعدم هو صدام ( الرمز وليس الشخص)وفي ذلك إعدام للعراق وسحق له في دوامة الإنتقام والإنتقام المضاد؟؟فكم من الأرواح البريئة التي ستهرق مستقبلا ؟؟وكم من القنابل التي ستفجرها كتائب الشهيد صدام، وأية قيمة في قتل رجل، قتل عدة مرات( يوم سقوط عاصمته، ومصرع أبنائه، وأسره المهين)..والسؤال الأهم : من سينتقم لضحايا الأمس واليوم والغد؟ فالعدالة قيمة وجوهر إنساني لايمكن تجزأتها وبيعها على طريقة تجار( الشنطة). واذا صدقنا أن صدام ارتكب جرائم ضد الإنسانية( في الدجيل) فمن سيجرؤ، على محاكمة شارون، وبيرتس وحالوتس على جرائمهم التي تمتد من دير ياسين حتى بيت حانون، وصبرا وقانا..من سيحاكم جنرالات الحروب في الجزائر وفيتنام والعراق وفرق الموت وقادة العراق الحاليين على جرائم، دماؤها لم تجف، ومقابر جماعية تكتشف كل يوم (والأسماء أكثر من أن تحصى)..عندما هزم نابليون في واترلو، نفيّ الرجل( الذي أغرق أوروبا بالدماء)، إلى جزيرة نائية!! صدام حسين لايقل عنه، فهو أكثرشهرة من نبوخذ نصر في زمانه.. من حق الإنسانية وأصحاب الضمير أن يمنعوا هذه المهزلة، ويحموا حياته( كما تحمي اليونسكو الإرث الإنساني) من حق البشرية أيضا أن تتعرف على الخبايا والأسرار، وما دفن في مغارات لصوص السياسة( وما أكثرهم )وتعطي هذا الرجل فرصة كتابة مذكراته..إن إعدامه إعدام للحقيقة

نادر قريط
كاتب من سوريا..فيينا