ما جرى ويجري في العراق حتى هذه اللحظة يعتبر بالنسبة لنا درسا عميقا ومهما لتأكيد أن الديمقراطية ونظامها وثقافتها هي التي تنتج مجتمعا صحيا وصحيحا. وما جرى ويجري لا تتحمله الديمقراطية وثقافتها،

للأسف هؤلاء الذين يتحدثون في هذا التعميم للحالة العراقية إنما يريدون من ذلك إما التغطية على الأخطاء الأمريكية في العراق والتي باتت معروفة والأمريكان أنفسهم اعترفوا بها، أو لتغطية الدور الإيراني في العراق وتلك هي المصيبة
بل العكس هو الصحيح. لو عدنا لتجارب أوروبا أو غيرنا من شعوب الأرض لوجدنا كما هائلا من الذكريات المرة والمأساوية والدموية في حياة هذه الشعوب وفي سياق انتقال مجتمعاتها نحو الديمقراطية. فكلنا يعرف الفارق بين التجربتين الإنكليزية والفرنسية. حيث تمت الأولى بشكل سلمي ودون الدخول في معارك داخلية ودون أن تراق نقطة دم واحدة في مسيرة انتقال المملكة المتحدة إلى الديمقراطية على عكس ماحدث في فرنسا منذ ما قبل الثورة الفرنسية وحتى الحرب العالمية الأولى تقريبا.

وألمانيا التي لم تعرف الديمقراطية إلا في المنتصف الأول من القرن العشرين. وهذه دول المعسكر الشرقي التي في غالبيتها لم تعرف الديمقراطية في حياتها قد انتلقت مجتمعاتها نحو الديمقراطية بسلاسة. على رغم من وجود حالات ونتيجة للوضع التاريخي والسياسي الراهن لها قد دخلت في آتون حروب أهلية ـ يوغسلافيا السابقة ـ ولم يعد هنالك حالة انتقال ديمقراطية تتم بمعزل عن حضور المجتمع الدولي فيها وصراعاته وقواه سواء منها من له مصلحة في الديمقراطية في هذا البلد أو ذاك أو من ليس لها مصلحة في هذه الديمقراطية، لنأخذ مثالا من منطقتنا: فإيران دولة أقليمية ذات وزن نسبي وسلطتها تحتجزها في أجندة في محصلتها لم تعد تنتمي إلى هذا العصر، هذه السلطة تستغل وزن إيران النسبي ـ كدولة ـ إقليميا من أجل منع أي تحول ديمقراطي في أي بلد تسعى فيه للنفوذ، ليس هذا وحسب بل تحاول بشتى الوسائل والطرق نشر ثقافة معادية للديمقراطية ـ كما كان حال غالبية النظم العربية قبل عقد من الزمن. فهي تمد القوى المعادية للديمقراطية في العراق وسورية ولبنان وفلسطين وإن كانت هذه الديمقراطية تخدمها أحيانا فهي تصمت عنها ولكنها تعمل من أجل ألا تتعمق ـ الوضع الفلسطيني مثالا ـ لهذا تتنازع دوما القوى السياسية في كل بلد من بلدان المنطقة ـ لكونها المنطقة الوحيدة في العالم التي لازالت ترزح تحت وطأة ثقافة استبدادية في مجمل محصلتها النسبية، رغم التحولات الديمقراطية التي تمت في أكثر من بلد عربي وسبق وأن أشرنا إلى هذه القضية في أكثر من مقال. تتنازع القوى السياسية حول دور العامل الخارجي هنالك قوى مثلا في فلسطين لاترى إيران إلا بوصفها دولة صديقة وحليفة لا بل ومرجع ـ منظمة الجهاد الإسلامي في فلسطين ـ وهنالك قوى ترى في خطورة الدور الإيراني في المنطقة وفي فلسطين أيضا. بلغة بسيطة إن عالمية البشرية اليوم لم تعد وليدة قرار هذه الإرادة أو تلك، أو هذا الدولة أو تلك.

لهذا على القوى السياسية المعنية في الأمر ان تقارب العمل السياسي من زواياه الحرفية وليست من زواياه الأيديولوجية والمسبقة الصنع، والتي تجعلنا نتحالف مع إيران ضد الغرب! فما الذي نتركه خلفنا من إرث ديمقراطي لأجيالنا اللاحقة. في هذه اللغة البسيطة هنالك من الكتاب والمثقفين العرب ينظرون الآن في سياق الوضع العراقي : أن شعوبنا ليست جاهزة للديمقراطية! وهذا إن كان وجها من وجوهه صحيحا لكنه ليس هو مربط الفرس. بل علينا البحث في كل تجربة على حدا من أجل استخلاص العبر وليس من أجل تعميم النتائج! لأنه مهما كان الوضع فلا يمكن تشبيه الوضع العراقي بالوضع السوري مثلا وتعميم الحالة العراقية على الوضع العربي!

لأن التجربة التاريخية لهذا الوضع تثبت العكس: الكويت المغرب اليمن..الخ هذه التجارب تؤكد وفق منطق التعميم نفسه: أن شعوبنا جاهزة للديمقراطية، وللأسف هؤلاء الذين يتحدثون في هذا التعميم للحالة العراقية إنما يريدون من ذلك إما التغطية على الأخطاء الأمريكية في العراق والتي باتت معروفة والأمريكان أنفسهم اعترفوا بها، أو لتغطية الدور الإيراني في العراق وتلك هي المصيبة.

مهما حدث ومهما تدخلت القوى الأقليمية والدولية في الوضع العراقي، تبقى تاريخية التجربة العراقية قائمة من حيث أن السيناريو الذي تم على الأرض أولا ليس سيناريو محبوك تآمريا على طريقة العرب، بل هو سيناريو تم نتيجة لتداخل في القوى وتنافر في المصالح في أبعاده التاريخية والراهنة. هذا السيناريو في سورية لايمكن أن يحدث مثله إلا في حالة واحدة فقط وهي: التي تتعلق في رفض السلطة في سورية الانتقال نحو الديمقراطية. وقيام تدخلات عسكرية خارجية غير محسوبة وهذا أمر لم يعد واردا في هذه اللحظة بقي الأمر الأكيد أن السلطة السورية ماضية في عرقلتها لدخول مجتمعنا السوري عتبة الديمقراطية، وعلى الفعل السياسي السوري المعارض أن يجد طريقه في هذه اللوحةالمعقدة وطريقه يجب أن يمر في عتبة العمل السياسي بمعناه المعاصر وليس بمعناه الأيديولوجي، تحديد أبدي للخصوم وللحلفاء! هذا من جهة ومن جهة أخرى الفعل السياسي الذي يؤسس لإحداث حالة هيمنة مجتمعية للفعل الديمقراطي.


بناء على هذه الطريقة في القراءة يتضح لنا أن النموذج العراقي ليس وجهتنا ومن جهة أخرى لتكن الحالة اليمنية أو المصرية أو المغربية أو الكويتية نموذجنا : لماذا العراق فقط؟
الحديث حول هذا الأمر لاينتهي لأنه حاضر دوما ولكننا نحاول إضاءة نقاط قليلة منه.

غسان المفلح