تتفق أغلب الآراء بشأن الوضع العراقي، أن الإستراتيجية الأمريكية في العراق بعد سقوط نظام الرئيس العراقي الراحل، لم تقدر على رسم طريق لوضع العراقيين على واقع جديد يختلف عن زمن الحكم السابق، وعلى العكس فقد اتسمت هذه السياسة بما يلي: اجتياح الساحة العراقية من قبل الإرهاب الإسلامي الدولي، حتى باتت مقاطعات كبيرة من الوحدات الإدارية العراقية ترضخ تحت سيطرة القوى الإرهابية خاصة في المنطقة التي تقطنها أغلبية سنية، مشاهد يومية دموية في بغداد وفي مناطق أخرى من العراق بفعل العمليات الانتحارية التي وجدت لنفسها من أرض العراق أرضية خصبة للفتك بأرواح الأبرياء من العراقيين صغارا وكبارا، تدهور اقتصادي رهيب في واقع الحياة المعيشية للعراقيين نتيجة تدهور الخدمات وفقدان الكهرباء وغياب الحاجات الأساسية للحياة العامة واليومية، ضمور أركان الدولة، وغياب حضورها في تأمين الحاجات العامة للشعب، ظهور مجموعات إرهابية وإجرامية متخصصة بأعمال القتل والسلب والنهب والخطف والاغتصاب والسطو وارتكاب الجريمة المنظمة والخطف الجماعي لمجموعات كبيرة من المواطنين والعاملين في دوائر الحكومة، سيطرة المليشيات المسلحة التابعة للأطراف السياسية في السلطة على الساحة الحكومية والإدارية والحياتية في الشارع العام وفرض قوتها ودورها على أجهزة الشرطة والقوى العسكرية النظامية الحكومية لوزارتي الداخلية والدفاع، انشغال القيادات السياسية خاصة المتحكمة بالسلطة بالسيطرة على المال العام والموارد المالية والنفطية لأغراض شخصية وحزبية من خلال التحكم بالمنشآت والأنابيب ومؤسسات الصناعة النفطية في العراق، فقدان البرامج الحكومية لتأمين مستوى معين من المعيشة بالحد الأدنى للعراقيين، فمواد البطاقة التموينية أصبحت تتلاشى ومحتويات السلة التموينية للعائلة العراقية أصبحت تتبخر وكأن هناك سلب ونهب للأموال المخصصة لهذا البرنامج، تبخر المساعدات والمعونات المالية الكبيرة التي أعلنت عنها السلطة الأمريكية بعشرات ومئات المليارات من الدولارات لأعمار العراق في مشاريع وهمية اشتركت شخصيات سياسية أمريكية وعراقية وكوردية على نهبها واختلاسها، غرز حالة من الفساد الرهيب التي تقشعر لها النفوس والتي جعلت من العراق أن يحتل موقع متقدم في القائمة السنوية الأخيرة لمنظمة الشفافية الدولية دون حياء ودون خجل من أرباب سلطات الحكومة العراقية.


هذه المظاهر المتسمة بالدمار والخراب التي اتسمت بها السياسة الأمريكية في العراق، جعل من كل عراقي غيور على الوطن والشعب، أن يلعن اليوم الذي سقط فيه نظام صدام، وجعل من كل عائلة عراقية أن تحن بكل شدة لأيام الحكم البائد استنادا إلى القول المعروف قطع الأعناق ولا الأرزاق، لأن النظام بالرغم من قمعه واستبداده وطغيانه واضطهاده لمكونات الأمة العراقية بجميع قومياتها ومذاهبها، ألا أنه كان في كل الأوقات حريصا شديد الحرص على توفير كافة الحاجات الأساسية من مواد غذائية ومحروقات والخدمات الرئيسية من كهرباء ومياه شرب وخدمات صحية وبلدية وبانتظام وبأسعار جدا مناسبة للمواطن والعائلة العراقية، ولا يخفى أن العراقيين لا زالوا ينعمون بخيرات إحدى تركات النظام السابق وهي سلة المواد التموينية التي بدأت تعاني فسادا كبيرا من أرباب السلطة الجديدة في الحكم.


أمام هذا الواقع المأساوي الذي يعيشه أهل العراق، وأمام الحالة الجديدة لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية لإعادة النظر بالسياسة والأستراتيجة المتبعة في العراق، خاصة بعد سيطرة الحزب الديمقراطي على مجلس الشيوخ ومطالبتهم بانسحاب الجيش، فإن الحالة السياسية والحياتية التي يعاني منها الشعب العراقي والتي أسلفنا إليه بتلك المظاهر المخربة للبنية العراقية، فإن الحالة تسترعي انتباها شديدا وتركيزا كثيفا على معالجة الحالة المعيشية والحياتية والاقتصادية للعراقيين من باب الحكمة والتعقل ومن باب المنظور الإنساني، لأن الوضع المعيشي بات ينحدر إلى مستويات متدنية في العراق وفي إقليم كوردستان، نتيجة السياسات الخاطئة وغير المسؤولة لأرباب السلطة في حكومة الطرفين، حيث بات اقتصاد الدولة ومواردها ومال الشعب مرتهنا بأيدي مجموعة متسلطة خضعت هذه الموارد العامة لأغراضها الشخصية والعائلية والحزبية، وللبرهان على ذلك لا يعرف أين ذهبت موارد العراق منذ سنة السقوط وحتى الآن خاصة النفطية منها والتي بلغت أكثر من ثلاثين مليار دولار في السنة الأخيرة.


ولكي تكون خطة المراجعة التي يريد أن يتبناها الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش بخصوص سياسة حكومته تجاه العراق، فان الحالة العراقية التي يجب أن يتم التركيز عليها تتطلب وضع الحلول المناسبة لكل القضايا والمشاكل الجوهرية التي يعاني منها أهل العراق، خاصة المشكل التي تطرقنا إليها والمتعلقة بالحالة الحياتية والاقتصادية للمواطن العراقي، الذي أخذت تضيق عليه صعوبة المعيشة وعدم توفر الخدمات والحاجات الأساسية من كهرباء ومحروقات والغلاء الفاحش في الأسواق والتضخم الرهيب الذي بدأ يفتك بجيوب العراقيين والفساد الفتاك المستشري في جميع القطاعات الحكومية وغير الحكومية الذي جل من الموارد العامة للدولة العراقية ضيعة عند أرباب السلطة الفاسدة والحالة الأمنية المنفلتة التي أصبحت تتم المتاجرة بها في وضح النهار بين أطراف الحكومة العراقية حسب الولاءات الخارجية والحسابات الإقليمية التي تخضع لها تلك الجهات والتي أدت إلى إغراق العراقيين في حالة مستمرة من حياة غير طبيعية متسمة بالخطورة الشديدة مما أدت إلى زرع حالة محبطة متسمة باليأس الشديد في نفوسهم لعدم ظهور أي أمل أو بارقة ضوء صغيرة من نهاية النفق المظلم الذي يعيشه العراق.


إزاء هذه الرؤية الميدانية لوقائع الأمور في حياة العراقيين، وأمام النية الجديدة للأمريكيين لوضع استراتيجية جديدة للتعامل مع المعضلة العراقية بحالتها الراهنة ومنظورها المستقبلي، فان الرؤية الجديدة تتطلب وضع آليات محكمة وخارطة طريق مناسبة نابعة من الواقعية والمسؤولية التاريخية تجاه العراقيين لطرح مبادرات جدية شاملة تأخذ في حسبانها معالجة جميع القضايا الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الواقع العراقي، لمساعدة العراقيين بجميع قومياتها وأديانها ومذاهبها، في تأمين الأمن والاستقرار العام وتأمين حالة حياتية مناسبة تتسم بمستويات جيدة من المعيشة لكل مواطن ولكل عائلة عراقية.


ولغرض الخروج برؤية واقعية عن الخارطة المناسبة من الاستراتيجية المؤمل طرحها، نأمل أن تتسم الخطة الجديدة اضافة الى جانبها العسكري بجوانب اقتصادية وأمنية وخدمية وادارية متعلقة بحياة العراقيين كما يلي: وضع خطط اقتصادية فعالة لمعالجة الحالة المعيشية والحياتية الفقيرة والقاسية للعراقيين والعمل على رفع مستوياتها، تأمين المحروقات وتزويدها على شكل حصص شهرية لكل عائلة عراقية، طرح برنامج وطني كبير لامتصاص البطالة من الواقع العراقي وتوفير فرص عمل كثيرة خاصة للشباب الذين يعانون من مشاكل اقتصادية وحياتية ومعيشية كبيرة، القضاء على ظاهرة الغلاء التي بدأت تحد من القدرات الشرائية للمواطنين وتوفير الحاجات الأساسية والخدمات الرئيسية، تأمين راتب شهري معتبر لكل امرأة عراقية تعمل ربة بيت في المنزل، وضع برامج وطنية فعالة للتخفيف من الفساد الرهيب المستشري في أوساط أغلب فطاعات الحكومة من مسؤولين واطراف حزبية، وضع برنامج وطني لتامين السكن لكل عائلة عراقية، إعادة الاعتبار إلى الضباط والمراتب من الجيش العراقي السابق ممن كان يتسم عملهم بالمهنية العسكرية للاستفادة منهم في الحياة المدنية وفي الجيش الجديد المبني على أساس الحقوق والواجبات المترتبة حسب الدستور الدائم.
بايجاز هذه أهم القضايا الآنية التي تلزم أن تتضمنها الاستراتيجية الامريكية الجديدة تجاه العراق، وهي حساسة ومهمة لتعلقها بالحياة اليومية للمواطنيين وللعوائل التي بدأت تعاني من شغف العيش بعد أن عانت من الإرهاب ومن القتل الطائفي العشوائي والتي دقعت من جرائها مئات الالوف من الضحايا والارواح البريئة، ولا شك أن الاستراتيجية الجديدة في حالة عدم احتوائها على برامج اقتصادية واجتماعية عاجلة، فان المعالجة العسكرية سوف لن تأتي معها اية حلول، وستظل الحلة العراقية تسير الى الأسوء وستتجه الى انهيار تام في البنية الحياتية وهذا ما سيحمل معها كارثة على العراقيين وعلى المنطقة برمتها.

جرجيس كوليزادة