تبادل الكراهية والمنافع!

منذ أن سقط السوفييت وسقطت معهم منظومتان من المؤسسات التي يعتقد أنها كانت استراتيجية بالنسبة للمشروع الغربي وهي مؤسسة الإسلام السياسي ومؤسسة النظم الهجينة كحالة النظام السياسي في سورية والعراق وليبيا على صعيد منطقتنا، هجينة كآليات وعلائق على كافة الصعد هجينة برموز سوفييتية أما النظم الهجينة برموز غربية فقد التحقت سريعا بالركب وقامت بتحديد نسبي لمستقبلها ومستقبل بلدانها: تونس المغرب..الخ عبر الملاقاة النسبية لروح العصر وإجراء إصلاحات بنيوية على مستوى النظام السياسي. وأهم ما في هذه الرموز:
الفارق بين سيطرة قطاع الدولة ـ أو السلطة على الاقتصاد ـ وبين القطاع الخاص في البلدان ذات الرموز الغربية. والسقوط هنا تم ليس بمعنى النهاية المشخصنة لهذه النظم ولهذا الإسلام السياسي بل بمعنى النهاية في حدود التفارق الكبير مع روحية هذا العصر وقواه الفعلية. ومع بدء الانتقال للنظام الدولي الجديد بدأت تتشكل ملامح تحالف جديد في المنطقة بعد طول عداء بين هذه النظم والإسلام السياسي بنسخه الأكثر تطرفا، وفتح المجال في هذا الأمر صدام حسين ـ على أقله ثقافيا واجتماعيا على الصعيد العراقي وسياسيا على الصعيد العربي كما يفعل النظام السوري اليوم ـ تحالف مبني على لملمة أوراق المهزوم بالمعنى التاريخي للعبارة من جهة والرافض لإجراء التغيير المطلوب وفق المستجدات الجديدة، وعدم الاستجابة نابعة من رفض هذه النظم أولا وأخيرا التنازل لمجتمعها عما صادرته من سياسة طيلة العقود الماضية. وليس هذا الرفض نابع من مسألة أو موقف وطني يرفض التدخل الخارجي! وهنا تكمن المسألة التي لم تأخذها أمريكا بعين الاعتبار. حيث ركزت في البداية ولازالت نسبيا على أن المطالب الغربية عموما والأمريكية خصوصا تتعلق بقضية دعم النظام السوري للمقاومة مما أعطاه صك براءة على مستوى الوعي الشعبي العربي وعلى مستوى النخب أيضا وأسموه ـ نظام ممانعة وهو فعلا نظام ممانعة ولكن على طريقة أية سلطة مطلقة ترفض أي خيار يهدد تخليها عن هامش ولو بسيط من سلطتها على المجتمع الذي تطبق على أنفاسه ولهذا المطالب الغربية يمكن أن تفرض رخاوة في قبضة هذه السلطة محليا وإقليميا ولهذا ترفض هذه السلطات كل المطالب الغربية ولهذا الأمر بحثه الآخر ـ وبالمقابل كان لدى أمريكا إشكالية أخرى في هذا المجال والتي تتلخص في عدم قدرتها على التركيز على الوضع الداخلي لهذه البلدان كي لاتتهم بالتدخل في الشؤون الداخلية!

وربما لأول مرة تحرك كوندليسا رايس هذه المياه الآسنة أثناء زيارتها لمصر قبل عدة أشهر ـ عندما ركزت في حديثها عن الإصلاح الديمقراطي داخل مصر ومدى الأخطاء التي ارتكبتها السياسة الأمريكية في دعم نظم الاستبداد في المنطقة ـ ولكن أحداث العراق وتطور الوضع المأزقي الأقليمي للسياسة الأمريكية جعلها تتراجع تكتيكيا عن هذا الأمر. في خضم هذه المجادلات حول السياسة الأمريكية وجدت النظم التي لاتريد الإصلاح مطلقا في خصمها السياسي التاريخي حليفا لدودا وهو الإسلام السياسي. ونستطيع وضع عنوان لهذا التحالف هو تبادل المنافع والكراهية.

وهذا بالضبط حال الإسلام السياسي مع النظام السوري بالمقابل أيضا فالمشاعر متبادلة في الحقيقة. ولكن الذي جرى أيضا أن النظام السوري اشتق طريقته الخاصة في قيام مثل هذا التحالف ـ هو حاول أن يجذب حتى التيار الأخواني المعارض في فترة من الفترات ـ وهذه الطريقة التي عبد فيها الطريق قبله صدام حسين، فأصبح النظام السوري ناطقا باسم الأمة الإسلامية كما كان حال صدام في فترة من الفترات عند الكثير من التنظيمات الإسلامية والقومية ذات التوجه العروبي الإسلاموي أو التي تعتبر الإسلام حاضنا ثقافيا لهذه الإمة. وتجلى هذا الأمر في السماح بكافة النشاطات الدينية التنظيمية والاجتماعية دون أن يقارب هؤلاء المجال السياسي بمعنى حرية تشكيل أحزاب دينية! وبقي القانون 49 القاضي بعقوبة الإعدام على كل منتم لتيار الأخوان المسلمين المحظور ساري المفعول حتى هذه اللحظة. فليست استمرار بناء المساجد بهذا الشكل المكثف والسماح لتنظيمات مدنية مثل القبيسيات وغيرها بالنشاط العلني الذي يهلل سياسيا للسيد الرئيس بشار الأسد، واحتضنت دمشق مكاتب وممثلين لكل القوى الإسلامية العربية.


إن التعامل مع التيار الديني على هذا الشكل من اللاتمثيل السياسي باعتبار أن النظام السوري هو من يمثله سياسيا أمرا سيجر الويلات لاحقا على سورية عند أي تغيير مرتقب، كما أن هذا الأمر لا يمكن أن يبقى محصورا في النشاط الاجتماعي بل سيجد طريقه نحو تعبيرات سياسية وفي غالبيتها ذات توجه متطرف. ويقابل ذلك كتم أنفاس المعارضة العلمانية والديمقراطية لخوفه من أن تجلب دعما دوليا لمطالبها الديمقراطية ولهذا الموضوع حساسيته الخاصة وخوف النظام منه يزداد يوما بعد يوم ولهذا تجد الاعتقالات بشكل شبه متواتر بحق نشطاء هذه المعارضة بشقيها العربي والكردي. وبنفس الوقت حتى اعتقالات من تيارات دينية سياسية تنبذ العنف في سورية كحزب التحرير الإسلامي ـ حسب ما يقولون هم ـ هذه السياسة التي من شأنها إعادة المجتمع السوري لثقافة الدعاة التي لاتجد طريقها إلا عبر تنمية الحس العدواني من كل ما هو غريب عن ثقافتهم. وهذا أيضا عامل غير مباشر من العوامل التي سمح فيها النظام للبعثات التبشيرية الإيرانية بأن تغزو سورية. والنظام يقرأ جيدا سقف هذه الثقافة فهو سقف في سياقنا السوري عنفيا على الأقل على المستوى الرمزي في هذه اللحظة. والنظام يتمنى أصلا أيضا في هذه اللحظة خروج تنظيمات أصولية مسلحة من هذا النشاط غير المسبوق للدعاة الإسلاميين.


أما هذه التيارات ولأنها الآن في وضع صعب على المستوى السياسي فهي تتعامل مع النظام وفق منطق التقية والثقة معدومة جدا بين الحليفان اللدودان. لأنهما مشروع واحد لسلطة آحادية. والمتابع لثقافة هذه التيارات والناطقين باسمها يجد أن الحديث عن ثقافة التسامح والتعايش هو خدمة لهذا الحلف المبتوت بأمره شرعيا عند هذه التجمعات الدينية السورية وعند الأحزاب السياسية الدينية العربية وفق مبدأ التقية. ونتائج هذا الحلف لن تعمر طويلا وهذا متروك الحكم عليه للمستقبل.

غسان المفلح