لست متخصصا في علم الإجتماع ولا في علم الإجرام حتى أسمح لنفسي بإطلاق الحكم على أسباب نشوء عصابات الإجرام أو بروز حالات الفساد في بعض الدول المتحررة من الدكتاتورية. فأنا أعتقد بأن هناك علاقة متينة بين نشوء تلك العصابات وسقوط الأنظمة الدكتاتورية من زاويتين. الأولى أن طبيعة الحكومات الدكتاتورية تتسم غالبا بإستخدام القمع المفرط ضد الشعوب لتحكيم قبضتها على مفاصل ومقدرات الدولة مما يخلق حالة من الخوف والرعب لدى المواطن تتحول بمرور الزمن الى كابح أمام بروز أي نشاط إجرامي منظم وواسع مثل المافيات وعصابات القتل والخطف والتسليب، والثانية هي أنه مع سقوط أي نظام دكتاتوري ينفلت فئات من الشعب المحروم والمكبوت من عقالها وتفقد توازنها في اللحظات الأولى للسقوط، وتتاح بالتالي أمامها الفرصة للتعويض عن سنوات الحرمان بعد زوال رعب الدولة الدكتاتورية، سواء بنهب أموال الدولة أو خلق حالة من الفساد الإداري والمالي في مفاصلها أو تشكيل عصابات الإجرام والمافيات المحلية.


ولدينا عدة شواهد في عراق ما بعد صدام حسين، تجلت بصورة واضحة في عمليات النهب والسلب الواسعة النطاق التي إجتاحت المدن العراقية، لكنها تشخصت بشكل أكبر في عمليات الإختلاس والتزوير على يد الوزراء والقادة الجدد للعراق والتي تمتلك مفوضية النزاهة مئات الملفات حولها.
ولكن ذلك لا يعني تبرئة النظام الدكتاتوري من ظاهرة الفساد التي هي موجودة في كل دول العالم وإن بدرجات متفاوتة. فنحن نعلم أن صدام حسين كان يستقطع لنفسه وعائلته حصة من إيرادات النفط، ووجدنا كيف أن الدائرة المحيطة به من أفراد عائلته والمقربين منه من أبناء العمومة والعشيرة يستغلون سلطتهم المستمدة من الدكتاتور ليحكموا قبضتهم على جميع نشاطات الدولة التجارية والصناعية والزراعية والإستهلاكية، مع ذلك كان هذا النظام على إستعداد لإعدام أي موظف صغير عند تلقيه الرشوة أو الإختلاس أو سرقة أموال الدولة وتعتبر إرتكاب مثل هذه الجرائم مخلة بالشرف تلصق بسمعة ذلك الموظف الى أبد الآبدين، وهناك عدد كبير من هذا الصنف المخزي وهم يحكمون العراق اليوم؟!!. إذن الفساد كان موجودا في زمن الدكتاتورية ولكنه كان من فوق، وأصبح اليوم يشمل الكل فوق وتحت؟!


ولعل أحد الأسباب الأساسية لتفشي ظاهرة الفساد الإداري وخراب الذمة لدى حكام اليوم يكمن في تلك الصيغة اللعينة التي فرضت على العهد الجديد في العراق، وأقصد بها مبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية السائدة في العملية السياسية لحد اليوم.ومما زاد الطين بلة هو إنشغال الحكومات العراقية بالوضع الأمني المتدهور دائما، ما أتاح فرصة ذهبية أمام المفسدين وفاقدي الضمير الوطني والإنساني ليحكموا قبضتهم على مقدرات الدولة الإقتصادية.


وأقليم كردستان الذي هو بالطبع جزء من العراق ومن العملية السياسية المؤطرة بالصبغة الطائفية والعرقية، كان من الطبيعي أن يتأثر بالجو العام السائد في العراق، وتصل فيه حالة الفساد الى ذروتها في ظل غياب سلطة أو رقابة المركز المنشغل بصراعاته ومشاكله الطائفية والأمنية، حتى أصبح الأقليم أيضا تحت سيطرة مجموعات يمكن وصفها بـ(المافيات) التي باتت تتحكم بدورها بالمقدرات الإقتصادية والتجارية والإعمارية وغالبا بدعم من الحكومة الأقليمية التي يتحكم بها الحزبان الكرديان اللذان لا يخفي قائديهما الإعتراف بوجود حالة خطيرة من الفساد الإداري والحزبي في مفاصل الحكومة والحزبين ولكن من دون محاولة منهما للقضاء عليها!


فالفساد يتفشى ويتعاظم في كردستان بشكل غير مسبوق، ومن دون وجود أي رادع قانوني أو أخلاقي.
ففي الوقت الذي وصلت فيه الأزمات المعيشية التي تعصف بكردستان الى مستويات قياسية غير معهودة منذ اوائل القرن الماضي، تسرح المافيات الكردية المتغلغلة في مفاصل الحكومة من دون رقيب أو حسيب مطلقة لنفسها العنان في إمتصاص دماء المواطنين، فأصبحت هناك طبقتين محددتين في الأقليم، إما فوق، في العلالي وهم يمثلون السلطة وأربابها وأعوانها، وأما تحت في الحضيض وهم الغالبية العظمى من الشعب الكردي!


فما زالت تلك الأزمات تضيق الخناق على مواطني الأقليم منذ سقوط النظام السابق ورغم هطول أموال غزيرة على الأقليم من ميزانية الدولة البالغة 17% التي كان من المفترض أن تحسن الأحوال المعيشية للمواطنين لا أن تكويهم بتلك الأزمات التي تتمثل اليوم في الكهرباء والوقود وإيجارات السكن وغلاء أسعار المواد الغذائية.
فأزمة الكهرباء وهي من أساسيات الحياة اليومية للمواطنين،وصلت الى الذروة بعجز حكومة الأقليم عن توفير ولو ساعة واحدة لمنازل مواطنيها خلال 24 ساعة في اليوم.. حتى ساعتي التجهيز التي كانت متوفرة في الأشهر السابقة أصبحت معدومة، ويبدو أن الحكومة بخلت على مواطنيها تجهيزهم بالساعتين..


وآخر إعترافات رئيس حكومة الأقليم بالفشل في حل المشكلة جاء على لسانه تحديدا حين قال quot; أن الحكومة بإمكانها بناء محطات توليد الطاقة الكهربائية في الأقليم، ولكنها عاجزة عن توفير الوقود لتشغيل تلك المحطات؟؟!!


وقد نسي السيد رئيس الحكومة أننا نعوم فوق بحر من النفط في العراق، وأن حقولا نفطية حديثة قد تم إكتشافها حتى داخل الأقليم يمكن إستغلالها في حال حالت الظروف الأمنية نقلها من المصادر العراقية لتشغيل تلك المحطات الموعودة؟!


أما أزمة الوقود المستفحلة، فقد ظهر أن هناك عصابات مافيا متخصصة تتحكم بها، لأن جميع عقود تجهيز المشتقات النفطية أصبحت بيد أزلام السلطة في الحكومة الأقليمية، وهم يتصرفون بأسعار الوقود كيفما شاؤوا لجني أرباح طائلة من هذه المواد الحيوية والضرورية في حياة المواطنين مثل البنزين والغاز السائل والنفط الأبيض التي وصلت أسعارها الى مستويات جنونية في ظل تحكم تلك المافيات بمنافذ الإستيراد.ومن المضحك أن يسعر السيد محافظ أربيل سعر لتر البنزين الواحد المستورد من المصافي الحكومية العراقية بـألف دينار فيما السعر المعلن من قبل حكومة المركز هو 360 دينارا للتر الواحد؟؟؟!!!


ثم أنه في ظل عجز الحكومة الأقليمية عن زيادة حصة السيارات من البنزين من 30 لترا في الأسبوع، يرى المواطن ملايين اللترات تباع في السوق السوداء، أو في محطات أهلية مستحدثة التي هي بدورها مملوكة لإفراد من عصابات المافيا الكردية التي يجني أصحابها ملايين الدولارات من خلال التلاعب بالأسعار في ظل غياب أي رقابة الحكومة بل وبتشجيع منها؟!.
ولنا أن نتساءل، لماذا تستطيع عصابات المافيا الكردية إستيراد مئات ملايين اللترات من البنزين من مصافي الحكومة العراقية ولا تستطيع حكومة الأقليم إستيراد الكميات التي تكفي لحاجات مواطنيها؟؟!!!!. هل أصبحت تلك المافيات الكردية أكثر قدرة على التعامل مع حكومة المركز، أم أن وراء الأكمة ما ورائها؟؟!!


ثم أن قرار السماح بإستيراد الوقود الذي صدر مؤخرا أعتقد أنه كان يهدف الى إستيرادها من دول الجوار لسد الحاجات المحلية كجزء من حل الأزمة، وليس الإستيراد من المصافي العراقية التي تزيد من حدة الأزمة، لأن حصة المواطن تذهب الى خزانات المحطات الأهلية التي يملكها متنفذون في السلطة، ولا أدري هل أن القانون العراقي يجيز للمصافي العراقية تجهيز المحطات الأهلية بالوقود مقابل الإمتناع عن تزويد المحطات الحكومية بذلك؟.


بمعنى آخر هل أن الحكومتين المركزية والأقليمية بدأتا بنفض أيديهما من توفير الوقود للمواطنين في محطاتهما الحكومية لتتيحا مجالا أوسع أمام الجشعين من أصحاب المحطات الأهلية لإمتصاص دماء المستهلكين؟؟! من يدري فقد تكون الكميات التي تستلمها محطات التعبئة الأهلية المملوكة لعلية القوم بالسعر الحكومي وتبيعها على المواطنين بالسعر التجاري المضاعف هي الحصة ذاتها المخصصة للمواطن الكردي التي تباع في السوق السوداء؟!.


أما أزمة السكن، فلا أحد يعرف أسباب سكوت الحكومة الأقليمية عن جشع أصحاب الدور المؤجرة.فقد إستفحلت الأزمة بدورها وبدأت تضيق الخناق كثيرا على رقاب المستأجرين.فقد كانت العادة أن تؤجر البيوت بالدولار الأمريكي، ولكن مع هبوط أسعاره في الأسواق مؤخرا بحدود 15 دولار لكل فئة 100 دولار لجأ أصحاب الدور الى تبديل قيمة الإيجار الى الدينار العراقي، مما حمل المواطن عبئا آخر بدفع ربع قيمة الإيجار كفرق لسعر الصرف بالنسبة للدولار.


والمشكلة أن الحكومة الأقليمية لا تكلف نفسها ولو بإصدار قرار يقضي بتخفيض إيجارات السكن بنسبة 50% مثلا لترفع ذلك العبء الثقيل على كاهل المواطنين الذين تحرم الحكومة الأقليمية غالبيتهم العظمى من حقوقهم المشروعة بتخصيص قطع أراضي سكنية لهم والتي تذهب بدورها الى أعوان السلطة الأقليمية.


وأزمة غلاء أسعار المواد الغذائية، حدث عنها ولا حرج، فقد وصلت سعر باقة الكرفس الى 1250 دينار ما يعادل دولارا واحدا، وهذا سعر لم يحلم به الكرفس ذاته منذ أن وفره الله لخلقه، وكانت الباقة الواحدة منها لا تساوي عشرة فلوس في زمن صدام حسين؟!! ويا لها من مقارنة عجيبة؟؟!!..
الأزمات تتوالى على رؤوس سكان الأقليم وتنسحب آثار بعضها على بعض، وتثقل كاهل المواطنين بشكل كبير وهم بمعظمهم من أصحاب الدخول الواطئة جدا مما حول جزءا كبيرا من المواطنين في الأقليم الى فقراء ومعدمين لا يمتلكون ما يدبرون به أبسط متطلبات حياتهم المعيشية ولو بالحدود الدنيا.
ورغم هذا الوضع المأساوي للمواطنين يبدو أن الأزمات ستستمر لأن الحكومة عاجزة تماما عن إيجاد حل ولو لجزء من تلك المشاكل على رغم مئات الوعود والعهود وتشكيل اللجان الحكومية لدراسة تلك الأزمات، فقد سمعنا قبل عدة أشهر بتشكيل أربع لجان لحل الأزمات الأربع التي ذكرناها، ولكن وعود الحكومة ذهبت جميعها أدراج الرياح، أو لنقل بصراحة أكثر، إصطدمت بقوة ونفوذ المافيات الكردية التي تحكم قبضتها هذه الأيام على خناق مواطني الأقليم.


بقي أن نشير بهذه المناسبة الى حالة مضحكة مبكية حدثت في أقليم كردستان، وجاءت في خبر تناقلته وكالة أنباء رسمية كردية مفاده quot; أن مدرسة إبتدائية في قرية ( بنكرد) التابعة لقلعةدزة تضم (6 ) معلمين ومديرها هو الوحيد الذي يستلم راتبه من الحكومة الأقليمية وبقية المعلمين الستة يجمع الطلبة تبرعات من أسرهم لتأمين دفع رواتبهم الشهرية؟! ولمن لا يعرف فإن حصة أقليم كردستان من ميزانية الدولة تبلغ 17% فقط لا غيرها؟؟!!


ختاما أعتقد أن حل مشكلات كردستان المعيشية والحياتية سهل للغاية فيما لو إقتنعت حكومتنا الأقليمية بنهب نسبة12% من حصة سكان الأقليم من ميزانية دولتهم وأكلها هنيئا مريئا وبالرفاه والبنين، مقابل تسليم النسبة المتبقية من تلك الحصة الى هذا الشعب الذي يتضور جوعا ويعيش أحد أتعس أيام حياته على الإطلاق؟؟!!..أليست هذه الإتفاقية منصفة؟؟!

شيرزاد شيخاني

[email protected]