لا يمكن أن أقول عن نفسي أنني طائفي حتى لو كنت كذلك!
لازلنا في المسافة التي لاتفصلنا عن موضوعنا، ولا حيادية القول عن خبر ما، ولا استباق لموضوعية نبحث عنها جميعا، فنحن نعبث في تلك المسافة منددين بالآخر على افتراض أنه طائفي ونحن لسنا كذلك!

يقف المرء قليلا ليجد نفسه وكأنه يتحدث من موقع طائفي! حتى لو تبنيت السياسة الغربية تجاه المنطقة فهذا لاينجيك من حبائل هذا الشرك المغري للكتابة فيه دوما، وبالتالي لاينقذك من طائفيتك المحمومة والتي تضعها تحت عنوانين مختلفة علمانية أو دينية متنورة أو خليط من هذا وذاك. فأنت أمام حالة سعار حقيقية من التصعيد الرمزي للحرب المتبادلة طائفيا بين مواقع هي في النهاية: تقف على أرضية واحدة. فهؤلاء المتحاربون لا يتحاربون على الدين الصح ولا على الدين الخير ولا على صحة تفسيرات دينية ما أو عدم صحتها. هم يتحاربون في الحقل السياسي بوسائل عنفية على المستويين الرمزي والمادي. لو استعرضنا الحقل السياسي هذا لوجدنا التالي:
كل الإسلام السياسي العربي وغير العربي يقف على إحدى أهم ركائزه الأيديولوجية التي توحده أيضا من منظور سياسي وهي معادة الغرب عموما والولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص: بدءا من أندونيسيا مرورا بإيران وانتهاء بتنظيمات الإسلام السياسي في الغرب نفسه والتي لا تأخذ سوى أشكالا من التنظيات التي تتيحها القوانين الغربية ـ جعيات أهلية أو مدنية..الخ يستثنى مرحليا من هذا الحكم ـ الرجراج معرفيا ـ الأحزاب والقوى الإسلامية في العراق ونخص بالذكر القوى الحاكمة الآن في العراق فعليا: الإئتلاف الشيعي بكل أحزابه هو يقف على أرضية تكتيكية الآن من أمريكا، لأن لو خسر هذا الإئتلاف الانتخابات لمرة واحدة سيقف فورا على نفس الأرضية الحقيقية التي يقف عليها المستوى السياسي الإيراني، بمعنى لو فازت قائمة إياد علاوي لشاهدنا وجها آخر لحزب الدعوة بزعامة إبراهيم الجعفري وللمجلس الأعلى للثورة الإسلامية بزعامة آل الحكيم. أما مقتدى الصدر فهو النسخة الأكثر جدارة من حزب الله اللبناني. هذه القوى الثلاث بدون الاستثمار الطائفي لا مكان لها في الوضعية العراقية. وهذا على كل حال ليس موضوعنا الآن. وبمعزل الآن عن الوضع العراقي نجد أنفسنا أمام قوتان رئيسيتان في المنطقة الإسلامية:
الأولى إيران وكل ملحقاتها المباشرة ! والثانية الإسلام السياسي العربي ـ لن نناقش الإسلام السياسي في باكستان وأندونيسيا لأنه امتدادا لهاتين القوتين بشكل أو بآخر وله وضعه الخاص. المشكل التي تحثنا دوما على ملاحقة هذا الموضوع هو: إشكالية المثقف العلماني بشكل رئيسي. هؤلاء مقسومون بحكم الركيزة الأولى ـ العداء للغرب ولأمريكا أو عدم العداء هكذا في حدية واضحة ولكل أسبابه ودوافعه ـ منهم من يدافع عن حزب الله وإيران وحماس والمقاومة العراقية ـ والتي لم تعطي حتى هذه اللحظة سوى شكلا أرهابيا كما أزعم ـ وهؤلاء تجد منهم من كل الطوائف والأديان ومن أهم منابرهم الإعلامية قناة الجزيرة وجرائد كالسفير اللبنانية والأخبار اللبنانية ومفتوحة لهم منابر الخليج كلها تقريبا ماعدا المنابر التي ترتبط بالمملكة العربية السعودية. هؤلاء المثقفون العلمانيون: يستثمرون الوجه الديني أو الطائفي من أجل مقاومة المشروع الغربي رغم أن قسم منهم يعيش هذه الحرية التي يوفرها الغرب نفسه لهم ويوفر لهم أسباب العيش الكريم. ويعالجهم في مشافيه ومجانا فيما لو تعرضوا لأمر صحي ما ! والمثال الأبرز في هذه الحالة نجده في بعض الصحف التي تصدر في الغرب. وللتنويه نحن نقف على أرضية الاحترام للجميع وليس عكس ذلك مطلقا. أما الجانب الآخر الذي لم يجد طريقه بعد ولازال يتخبط نسبيا هو الجانب الذي أدعي أنني داخل فضائه الليبرالي والديمقراطي. وأحد أسباب تخبطه هو ما تتركه المصالح الغربية الضيقة من انعكاسات على السلوك السياسي لهذا الغرب تجاه بعض قضايا المنطقة وليس فلسطين سوى واحدة من هذه القضايا. أو كما يحب بعضهم الحديث عن معايير الغرب المزدوجة في التعاطي مع قضايا المنطقة. وهذا صحيح بدرجة ليست قليلة. فأخطاء أمريكا في العراق لا يستطيع أي عاقل مهما كان علماني أو غير علماني ليبرالي أو غير ليبرالي الدفاع عنها وأهم هذه الأخطاء واعتبره المقتل أن أمريكا أهدت العراق للقوى الظلامية ولإيران وهذا لم يؤدي فقط لإضعاف التيار الليبرالي العلماني بل أدى إلى ما نراه من مأزق أمريكي الآن في العراق، والمأزق ليس سببه المقاومة العراقية كما يحب بعض الإسلام السياسي العربي أو الإيراني أو حلفائهما من العلمانيين أن يصورا الأمر: بل السبب الرئيسي هو تلك الطبقة السياسية التي تسلمت السلطة.


نجد أنفسنا دوما نعود للوضع العراقي. فما يسمى المقاومة هو بالضرورة كان استثمارا خاسرا سياسيا لو أن هنالك طبقة سياسية ديمقراطية وتؤمن فعلا بدولة مدنية ! لأن الخلل الأمني والعنف المتفشي كان يمكن إيجاد حلا له لو أن من مصلحة الطبقة السياسية الحاكمة إيجاد مثل هذا الحل، ولكنها هي نفسها تعتاش على هذا الاستثمار الذي له وجهين: ديني ـ إسلامي ـ وطائفي شيعي سني.


إن إيران والإسلام السياسي العربي ليس لديه حقلا يستثمر فيه سوى الحقل الديني والطائفي ! وهذا الحقل يستتبع مباشرة تأمين وسائل القوى المادية ـ السلاح ومنه المشروع النووي الإيراني الذي يشبه كثيرا دوافع المشروع النووي الإسرائيلي ـ بعد كل هذه التوظيفات الرمزية للبعدين الديني والطائفي في محاولة هذه القوى الإستيلاء على السلطة في المنطقة.


اللغة الإيرانية يمكن اختصار ترميزتها الأساس بالشعار التالي: في فلسطين نحن مسلمون وفي العراق ولبنان نحن شيعة. حول هذه الدائرة تدور الدوائر ـ الحرب ـ فالحرب هنا استثمار طويل المدى. سواء أخذت وجها دينيا ـ مسلمين وصليبين ـ أو وجها طائفيا شيعة وسنة. وهذه الحرب في الأولى مع الغرب وفي الثانية داخل المجتمعات العربية نفسها. لهذا الإسلام السياسي العربي يجد نفسه دوما في مأزق: هو يناضل في دوله ضد الديكتاتورية ويقوم بنفس الوقت بترميز صدام حسين والأنظمة التي على شاكلته ! كيف هذا السؤال يجد حجته الأكثر حضورا في أن الأولوية هي ضد المشروع الغربي الصهيوني ! وهذا يذكرني ببيان لجماعة الأخوان المسلمين في سورية والذي عنوانه الأمة في خطر بين المشروعين الفارسي والأمريكي. في تعليقهم على ما يجري في لبنان. فتنظيمات الأخوان المسلمين في العالم العربي موقفها عجيب من هذه القضايا: تناصر حزب الله وتتحالف مع إيران وسورية من جهة ومن جهة أخرى ترمز المقاومة العراقية وصدام حسين من جهة أخرى. فهي بحاجة لاستثمار رأس مالها الوحيد وهو: الرأسمال الديني فهي ليس لها برنامج دولة لادينية مطلقا مهما حاولت حتى هذه اللحظة أن تقنعنا بعكس ذلك. يستثنى نسبيا جماعة الأخوان المسلمين في سورية ـ فهؤلاء لهم بحثهم الخاص لكونهم لازالوا خارج التنظيم العلني من جهة ـ كالمغاربة واليمنيين وحماس والخليجيين..الخ وعملهم المعارض الطويل نسبيا جعلهم أقرب لتبني طرحات حقيقية حول الدولة المدنية من جهة أخرى. ويبقى السؤال مشروعا:
إلى أي حد تجذر مفهوم الدولة المدنية عند جماعة الأخوان المسلمين في سورية ؟


أما بالنسبة لإيران: فوضعها مختلف عن البقية لأنها كتنظيم ديني هي في السلطة وفي السلطة المطلقة. وهي تستثمر رساميلها الطائفية والدينية من أجل مشروعها السلطوي سواء أخذ وجها دينيا طائفيا أو أخذ وجها فارسيا المسألة سيان. لأنه بالمؤدى الأخير يتحرك وفق أجندة هي في مضمونها عنصري. لأن أي استثمار ديني أو طائفي في المنطقة وفي حقلها السياسي سيأخذ بالضرورة بعدا عنصريا وعنفيا في الآن معا. فهي في قاعدتها الشعبية مبنية على استمرار الإزدحام الشعبي حول مرقد ولاية الفقيه. أو ولاية التيار القومي الفارسي المتداخل الآن مع التيار الديني هناك.


في لبنان إيران لها مطالب حول المحكمة الدولية ! وفي فلسطين لها مطالب عن كيفية تشكيل حكومة وحدة وطنية هناك ! في العراق مطالبها محققة بشكل كبير لهذا هي في حالة مساومة ضمنية مع الأمريكان في العراق. بعد هذا يتضح أن لإيران استثماراتها الأساسية:
الصراع العربي الإسرائيلي بوجهه الديني وداخل المجتمعات التي تبحصث فيها عن نفوذ ولا يوجد فيها أقلية شيعية، أما في المجتمعات التي يوجد فيها أقلية أو أكثرية شيعية فاستثمارها يأخذ بعدا طائفيا. وقبل أن نختم هذا القسم يبقى سؤال: أين موقف القوى العلمانية من هذا الأمر ؟

غسان المفلح