من المسلمات الأساسية في حياة منطقة الشرق الأوسط أن الأمم والشعوب فيها مرت بفترة عصيبة من الحكم الاستبدادي الجائر الذي مسح من قاموسه كل مفردة من مفردات حقوق الإنسان، فترة اتصفت بعدم مراعاة المجتمع أفرادا وجماعات، فترة خضعت فيها الدولة والشعب بصورة منظمة لخدمة أنظمة حاكمة بدهاء سياسي مبطن بكل سمات الشر ومغلف في عين الوقت بكل سمات التزييف والتجميل، من خلال فرض سياسة قمعية لترويض الأمة بكافة مكوناتها، مع طرح واجهات ديكورية لتجميل صورة النظام أمام المجتمع الدولي اعتمادا على نقل صورة ايجابية مصطنعة عنها إلى الخارج لإظهاره بمنظر لائق أمام العام، مع كبت وقمع أي صوت يتصدى بوضوح لحقيقة الحكم أمام المجتمع الإنساني.

واليوم بعد وضوح الصورة وظهور الحقيقة، وتسليم سلطة الحكم لقيادات كوردية في إقليم كوردستان بعد مرور أكثر من عقد ونصف من السنين بعد سقوط نظام حكم البعث في بغداد، تفاجأ الكرد بالسرعة غير المتوقعة بالأساليب الفاسدة لإدارة الحكم، وتفاجئوا أكثر بالصورة المخيفة لواقع الحال الكوردي في عهد الحكم الاحتكاري والاستغلالي والابتزازي للحزبين الرئيسين في الإقليم للتجارة بالشعب لنهب قوته وموارده العامة، فظهر لهم ما يقلب الصورة المرسومة في مخيلتهم عن الزعامة والقيادة الكوردية رأسا على عقب لبنائه على أمجاد مشرفة من قادة تاريخيين تشرفت بهم الأمة الكوردية من أمثال الملك محمود الحفيد والزعيم مصطفى بارزاني والسلطان صلاح الدين الأيوبي والسلطان مظفرالدين الكوكبري.

بلى صورة مقلوبة مشبعة بكل معاني الاضطهاد الابتزازي عن المسؤولين والقادة والزعماء الكورد، نتيجة فسادهم وتربعهم على السلطة الكوردستانية مع اتسامهم بطبائع غاية في السوء والأنانية والاستغلال، أجل صورة مهتزة تزاحمت بسبب أحداث مأساوية وأفعال غير إنسانية لهؤلاء المتسلطين على السلطة من أمراء الحروب ومن أرباب الحكم المراقين، نتيجة لسلوكيات انتهازية وتصرفات غير مسؤولة بعيدة كل البعد عن الأخلاق وعن صفات الحكم العادل المنتخب بصناديق الاقتراع، صورة جعلت من أفواه الكورد مفتوحة غير مغلوقة لحد الآن لشدة الصدمة وثقل تقبل خيبة الحال التي لحقت بهم، خيبة جعلت من مساءهم لا تنتهي بصباح مشرق جميل ولا صباحهم ينتهي بمساء طيب، فتاه عليهم الليل من النهار وتاه عليهم النهار من الليل وحار بهم الأمر من شدة وقسوة الحياة التي صنعت لهم من هؤلاء الفاسدين العابثين ليعيش الشعب فيها.

اجل هذا الشعب، شعب الكورد، شعب مكسور يتشدق به كل من حمل لواء الزعامة والقيادة المتسلطة المغروزة بالجماجم والمغروسة بسيل من الدماء الكوردية والفارضة على نفسها قدسية لم يحلم بها لا الأنبياء ولا الخلفاء ولا السلاطين ولا المماليك في كل العهود الماضية حتى خيل للكوردي أن تكليف الإنسان من الرب قد عاد من جديد واختير بالتحديد في أن يكون بأيدي زعامات ذاق بهم الدهر والزمان والمكان لاحتكار عبقريتهم الفذة فقط في استنباط أنماط جديدة من القمع والاستبداد لاضطهاد الشعب في حضورهم لاختلاس أموالها ومواردها، عهد ابتلى بهم الكورد حتى زال عنهم الحكم الرشيد ففاح عليهم عطر القمع ورياحين الاستبداد ونسائم الاضطهاد ودهاء الاستغلال ومكائر الاحتكار وفظاعة الامتصاص من دماء رقاب الشعب لحفنة من الفاسدين القذرين بالابتزاز والاتجار المحرم، أجل احتكار واستغلال واتجار لأقلية حاكمة متسلطة جعلت من الإنسان الكوردي أن لا يرى فيه غير كتلة من مادة لا حس فيها ولا روح، لا نطق فيها ولا نظر، لا صوت فيها ولا بصر، لا ولادة فيها ولا موت، لا تجديد فيها ولا تمويت، لا تخليق فيها ولا تطليق.. كل ما لديها حركة واحدة، لا يسار فيها ولا شمال، لا أمام لها ولا خلف، حركة مأمورة، حركة جامدة محكومة بالموت لا نبض فيها بالحياة، حركة مسترشدة بأصابع الحكم الفاسق الرشيد، حركة مسترشدة بالجفون الفاسدة لجلالة الزعيم المعظم، حركة مسترشدة بالعيون المغمضة للرئيس الهمام، حركة مسترشدة بأكتاف القيادي والمسؤول الكوردي المستبد المستغل والملهم المقدام..؟؟، فتصفق لهم أفراد من الفئات الفاسدة من امة صلاح الدين الأيوبي، وتنافق بها نفاقا عجيبا أفراد من الفئات المنافقة من أمة الملك محمود، وتتشدق بها أفراد من الفئات القابعة على رقاب الكورد من أمة القاضي محمد، وتتغنى بها أفراد من الفئات المتسلطة من أمة مصطفى البارزاني، لمص دماء الشعب نهارا وجهارا، لنهب خزائن الشعب.

أجل أمام هذه الصورة الفاسدة، لا شك أن حسرات الإنسان الكوردي في حاله وواقعه ومعيشته، حسرات فيها الم وفيها زفرات جروح غائرة، فهو قد تربى في أجواء تسلط حزبين يحكمان باسم الديمقراطية ويتقاسمان ثروات البلاد باسم الأخاء، هذا الإنسان الذي توظف تحت إمرة أناس متسلطين فاسدين عابثين واقتحم في سوق فيه تجارة تسلط واحتكار واستغلال ونهب وسلب للمال العام، هذا الإنسان عود على أن المتسلطين أقوى منه وعلم أن يكون طائعا صاغرا لهم، وألا فإن رمق العيش الزؤام لا مناص منه.. بهذه التربية الفاسدة للحزبين في كوردستان يتربى الإنسان الكوردي، أجل هذه هي التربية الأصيلة الرشيدة التي تفوح منها روائح فساد كل الزمان والتي تفوح منها الروائح الكريهة لكل الطبائع الفاسدة للمسؤولين.

وبفضل هذا الفساد وبفضل همجية الابتزاز والاستغلال، أصبح المسؤول الكوردي من زعيم حزب على مستوى الأحزاب وأعضاء للمكاتب السياسية والحزبية ورؤساء حكومات ووزراء ووكلاء وعمداء ومدراء عاميين ومدراء ومسؤولي فروع وشعب حزبية وأقارب ورؤساء عشائر وأغوات الى أصغر مسؤول بالألوف، أصبح مالك كل شيء على أرض الكورد في الزمن الكوردستاني بعد سقوط الصنم الطغياني، وأول ما يملكه هو رؤوسا من الوحوش الكاسرة التي تلتهم قوت الشعب نهارا وجهارا، وحاشية من الخدم والحشم والحماية والرماية، وصفوفا من القصور والفيلات والمنازل والعمارات والمزارع والبنايات و السيارات الرباعية الدفع الحديثة والعفاريت والمحلات والكراجات و المكاتب وشركات المقاولات و البيوت السياحية والمنتجعات، وصفوفا من خزائن المال العام، وصفوفا من الحسابات الخاصة في البنوك الأجنبية بالملايين والمليارات من الدولارات، وصفوفا من مجهولات لا تدري بأي عنوان تبرزها.. كل هذا بفضل بركات دولة الإقليم وبفضل خزائن الشعب و بفضل سطوة الحزبين، أجل بركات تودع فيها المليارات من الدولارات التي تقتسم للحزبين الرئيسين باسم شعب الإقليم من خزائن بغداد صاحبة قصة علي بابا والأربعين حرامي، أجل وبفضل بركات تؤتى بالمئات وألوف الملايين من الدولارات من المنح الأمريكية والمساعدات الدولية، أجل بركات عظيمة هائلة، وكل هذه البركات المقدسة تذهب في جيوب وحسابات المتسلطين على رقاب الشعب باسم الحزب والحكومة من أرباب السلطة الكردية التي لم يحلم بها بهذا القدر وبهذه الخزائن أي قائد كردي عظيم بنى لنفسه ولأمته مجدا بأخلاقه وسلوكه وشجاعته وصفائه وفروسيته وكرمه وتواضعه مثل القادة الكبار صلاح الدين الأيوبي وشيخ محمود الحفيد والقاضي محمد و مصطفى البارزاني، واقع لم يحلموا به لا في حياتهم ولا في أحلامهم.

أجل طبائع فاسدة لمسؤولين من زعماء وقيادات ورؤساء ووزراء في الحكومات الكوردية المتعاقبة في إقليم كوردستان التي تشكلت بعد انتفاضة عام واحد وتسعين، طبائع جعلت من كل هؤلاء المراقين فاقدين الإحساس بالوطنية، فاقدين الشعور بالانتماء للشعب، فاقدين الولاء للوطن، الولاء عندهم لكل من يدفع أكثر ولكل من يختلس أكبر ولكل من يسرق أكثر ولكل من يجمع مالا أوسع ولكل من ستولي على ملك أكثر ولكل من يجعل الشعب رهين الفقر ورهين الأزمات ورهين الخوف ورهين الإملاق ورهين الجوع ورهين الموت ورهين الهموم، أجل لكل من يجعل الكوردستاني ضيعة للأزمات والأهوال والصعاب والموات، ضيعة راحت في التوسع يوما بعد يوم حيث تزداد شدتها وتزداد قسوتها وتزداد حرقتها على حياة المساكين والفقراء والمحتاجين من أبناء الشعب.

ماذا نقول أمام هذا الحال، كل ما نقوله كما قلناه في السابق والحاضر وكما سنقوله في المستقبل حتى وإن رمونا في دهاليز السجون، أن حال الأغلبية من الكوردستانيين الفقراء لا حول لهم ولا قوة، بينما حال الأقلية المتسلطة المتجبرة قد فاق الخيال وفاق كل مدى تصل اليها الأحلام، حال لابد لها بالزوال ولابد لسيوف الجشع والعبودية الجديدة للأقلية المتسلطة بالاندحار ولابد للقيود بالانكسار، فقد ضاق الشعب من فساد الحكم واسترقاق النفوس، واستعباد العقول، وحان الوقت للنهوض وللصحوة و للنزول الى قلب الشعب، ومن يأبى ذلك فقد قطع الرحم وقد رفع عنه العتب فليرضى أي يوم يهوى وأي حال يلقى، وقد أنذر من أنذر وأعذر من أنذر، فقد حان الوقت للكورد أن يفيق ليعيش لأطفاله ولأجياله وحان الزمن لقيد الفاسدين أن ينكسر.

د.جرجيس كوليزادة
[email protected]