من يعطيني عيناً ترى الجمال ويأخذ خزانتي
(جبران خليل جبران)

قبل الخوض في هذا الموضوع احب أن اقول شيئاً: قد يستغرب البعض من طرح هكذا مواضيع في وقت انتعشت فيه لغة النار والإنفجارات حتى صارت اكثر شيوعا من(الالعاب النارية) وامست هي التي تعكس سخونة الواقع ومرارته وتردّيه، اقول ان قراءة درجة السخونة لا تكفي لإخمادها و استعمال ( مخفضات الحرارة ) لا يعني العلاج، فالاسباب لا تكمن تحت الجلد مباشرة، انها تسكن الأدمة العميقة، وما نراه او نلمسه هو الطفح و العرض لتلك الاسباب التي تعتمل في الاغوار العميقة لنفوسنا.


فالوصف المباشر لدمامل وجروح الواقع واللهاث وراء المصائب قد ينسينا الإنصات الى دواخلنا ومحاولة الوقوف على شفا ذواتنا لنبصر ما في اعماقنا من مستنقات آسنة تفوح منها روائح الحقد والضغينة وتنموا في احشائها طحالب سامة يسري سمها لعقولنا فننحدر الى ما دون البهائم. وقد وضع الشاعر الالماني الكبير( شيلر، 1759 ndash; 1805 ) اصبعه على الجرح حين قال:
)ان الانسان يبتعد عن هدفه الأسمى بطريقتين: اما ان يصير ضحية للعنف، واما ان يصير وضيعا ومنحلا، ويجب على الجمال ان ينقذ الانسان ويوصله الى الطريق الصحيح بعيدا عن هذين الخطأين). الجمال هو المنقذ، فهو المعيار الذي على ضوئه نعدل ما اعوج من سجايانا وما رذل من سلوكنا، ( فالجمال والصلاة اسمى ما في الحياة وبهما يتم انقاذ العالم( هذا ما قاله واعتقده الأديب العملاق ( ديستوفسكي )، ولا يذهب بعيدا عن ذلك الفيلسوف الكبير افلاطون حين اشار الى: (ان الجمال والخير والحق حقيقة واحدة فليس بجميل ما يقوم على باطل ).

فالجمال والاحساس به وتذوقه يشكل لازمة لكل حضارة مرموقة، فهذا انسان الحضارة السومرية ومن اجل ان يبدع شكلا جمالياً، ارسل العربات التي تجرها الحيوانات الى افغانستان ليجلبوا حجر (اللازورد ) الذي يضج باللون الازرق، وهذه الحضارة الإسلامية كم ابدعت وتالقت في المجال الجمالي، وانحسرت يوم انحسر حسها الجمالي ومات فيها الذوق الرفيع لابداع آيات الفن والجمال، ذلك الذوق الذي اوصلها الى جوهر الدين وروح التشريع، الحس الجمالي جعلها تحترم اجمل ما في الانسان، الا وهو (انسانيته ).

وليس بالمستغرب ان تجد في ثنايا شروح الفارابي عن الله خطاً فلسفيا عن الجمال، والخط نفسه تلاحظه عند الفيلسوف ابن سينا الذي تبنى وجهة نظر الفارابي وطورها. ومتى ما طرد الجمال من ثقافة الانسان، عندها يبدأ التصحر القاتل زحفه نحو كل مفردة من مفردات هذا الانسان وكل ما بناه وتبناه من قيم وديانات ومبادئ خيرة، فيصبح الدم المسفوح ظلما هو المعادل للحبر الذي يعمّد كلمة طيبة او يبني صرحا فنيا جميلا، وتضحى الاشلاء البشرية المتناثرة هي المقابل لانتشار الألوان والخطوط والزخارف على خزفيات ولوحات وجداريات تسبّح للجميل المبدع الخلاق، ويصبح الدين المختطف والذي أزهقت روحه هو البديل لدين الرحمة والمروءة والجمال. اذن متى نرى الجمال حتى نرى الله، لأن الله جميل ويحب الجمال؟

حسين السكافي