البكائية البريئة المميزة النابعة من صفاء الوجدان ونقاء القلب التي أجهض بها اللاعب العراقي الكوردي هاوار ملا محمد كانت صرخة وطنية عالية نابعة من القلب الاصيل الذي يحمله هذا اللاعب بضمائر عراقية وقلوب كوردية، هذه البكائية التي كانت بمثابة بلسما شافيا لامتصاص غضب العراقيين وسط الذهول الكبير الذي خيم على عموم الأمة العراقية بجميع قومياته ومطوائقه وأديانه ومذاهبه وبجميع أقاليمه ومحافظاته ومدنه الكوردية والشيعية والسنية، بسبب خسارة المنتخب غير المتوقعة أمام المنتخب السعودي في بطولة خليجي 18 في الإمارات العربية.


ولا شك ان الذهول الذي سيطر على العراقيين في الجنوب والوسط وكوردستان، لم يأت من رد الفعل الطبيعي مثلما يحدث في اية مباراة عادية لكرة القدم بسبب حسابات الفوز والخسارة، وانما جاء رد الفعل بسبب حسابات مكشوفة كانت ظاهرة للعيان أثرت على مجريات أحداث اللعبة بصورة غير طبيعية كما أشارت اليها تحليلات أغلب المعلقين والخبراء المعنيين في كرة القدم، وتبين بعد ذلك وجود أخطاء متعمدة من حكم المباراة بالإضافة إلى وجود ألغاز مرتبطة بلعب دور سلبي للكادر التدريبي والإداري للفريق ولاتحاد كرة القدم العراقي حيث كما تبين من المباراة أن لعب الفريق العراقي لم يكن طبيعيا ولم يكن لعبا للفوز او حتى لعبا لتحقيق التعادل الذي كان يكفيه للصعود الى دور قبل النهائي في البطولة.
ولكن المثير في هذا الأمر أن العراقييون بكل مكوناتهم المتنوعة في الداخل والخارج وقفوا صفا واحدا خلف فريقهم الكروي لمساندته وتآزره للوصول الى نهائي البطولة، ورغم أن هذا الوقوف المعنوي ليس بغريب عن العراقيين لأن التاريخ الرياضي لهم حافل بمثل هذه المواقف الوطنية التي شدت كل أهل العراق من الكرد والعرب والتركمان والمسيحين وكل الطوائف الأخرى في صف واحد وموقف واحد لتقديم كل الدعم المعنوي والمادي للفرق الرياضية، خاصة كرة القدم منها، التي لعبت باسم وادي الرافدين والتي حملت لواء العراق في المحافل الرياضية لكسب بطولة أو لعبة باسم العراقيين جميعا.


ورغم الواقع المأساوي الذي يعيشه العراقيون، وتراجيديا القتل اليومي الذي يسبحون فيه، وممارسات القتل الطائفي التي يصبحون فيها صباحا، ومجازفات القتل العشوائي التي يكدحون فيها نهارا، ومغامرات القتل الليلي التي يرمون فيها مساءا، رغم كل هذه التراجيديات والبكائيات التي تدمي القلوب وتعمي العيون وتغلي الصدور وتذهل العقول، فإن صبر العراقيين والتعامل الإيجابي لهم والروح المعنوية العالية التي أظهروا بها خلال مباريات الفريق العراقي قد أذهل الجميع من مراقبين ومحللين ومتابعين لعفوية الألفة العبرة عنها ولجدية المحبة والمودة الأصيلة التي بانت عليهم تيمنا وعشقا منهم بالعراق الغالي الذي يحمل لنا جميعا كل معاني الطيبة والخير والبركات.


أجل بهذه المعاني الجميلة عبر عنها أهل العراق، وعبر عنها اللاعب هاوار أصالة عنه وعن كل العراقيين بعفوية لمست قلوب جميع مكونات الأمة العراقية في وقت عصيب ورهيب وشديد الألم والأمة ترضخ فيه بين سندان الإرهاب ومطرقة الطائفية المقيتة التي زرعت في شوارع وأحياء بغداد وبعض المدن العراقية بأيادي أجنبية لا تملك غير الكراهية الشعوبية الحاقدة على العراقيين بجميع قومياتها وأديانها ومذاهبها لتغتال الروح البريئة في نفس العائلة العراقية الطاهرة وفي نفس الإنسان الكريم لهذه الأرض الطيبة التي لم تعرف غير المحبة والمودة لغة وسلوكا، ولم تعرف غير الوئام والسلام طريقا ومسلكا.


عراق لم يعرف مثقال ذرة من هذه الضغينة والكراهية والحقود اللئيمة التي تبديها الدول الأجنبية والعربية الحاقدة، المجاورة منها للعراق والبعيدة عنه، تجاه الطيبة وتجاه الطفولة البريئة والأمومة الرحيمة والأبوة الحميمة للعراقيين الذين تحملوا صعاب الغير وأهوال المتآمرين بسيناريوهات غامضة، مخططة لعقود طويلة لأهداف شريرة مضرة بالعراقيين، دون دراية منهم ودون مشاركة منهم، عن طريق إيقاعهم في مخططات دولية رهيبة كارثية بفعل مسرحيات سياسية مفبركة وضعت للمنطقة من عهود طويلة سبقت الحرب العالمية الثانية واستمرت بها وفق صفحات منظمة لتسيير الأحداث في منطقة الشرق الأوسط حتى وصل الأمر بشعوب المنطقة الى ما هو عليه الأمر في يومنا هذا، ومن جملة هذه الأحداث دفاع الشعب الكوردستاني عن حقوقه والمطالبة به من الحكومات الملكية والجمهورية التي حكمت العراق حتى العهد البعثي الصدامي، حيث ابتعدت تلك الحكومات عن العقلانية وتسببت في خلق حروب طويلة كانت مضرة متسمة بالكارثية على العراقيين والكوردستانيين جميعا، مما نتجت عمليات إبادة للكورد في كوردستان وللشيعة في الأهوار الجنوب وللسنة في بعض مناطق الوسط، كل من أجل لا شيء سوى غياب المنطق والعقل والتفكير الإنساني من عقول تلك الزمر الحاكمة وإحلال التعصب والشوفينية والتفكير العنصري في عقولهم الفارغة التي زرعت الويلات لأهل العراق.


ولكن بالرغم من كل تلك الوقائع الأليمة في الواقع العراقي، ألا أن ما يميز تلك المراحل خاصة منها المواقف الدفاعية للكورد عن وجودهم وعن مصيرهم مع العمليات العسكرية العنيفة والقاسية التي كانت تشنها الحكومات المتعاقبة في بغداد على الشعب الكوردستاني، والمواقف الدفاعية للعراقيين في الأهوار والجنوب والوسط، أن تلك المراحل بصفحاتها القاسية والمؤلمة لم تعرف بأي حال من الأحوال أي موقف أو عمل طائفي أو إرهابي، ولم ترى واقعا شبيها بالواقع الإرهابي الذي نشهده في يومنا هذا والذي شهدناه طيلة السنوات القليلة الماضية، أجل أيام وسنوات تلك الصفحات طيلة أكثر من نصف قرن من حياة العراق وأهله لم تشهد حادثة إرهابية ولا حادثة طائفية بكل هذه القساوة الإرهابية والإجرامية التي نشهدها في حاضر حياة العراقيين، أجل طيلة كل تلك العقود لم تؤثر عنف الأنظمة الحكومية التي مر بها العراق على العراقيين وعلى أهلها في كوردستان والجنوب والوسط، حيث كان للكوردي ثقة مطلقة بأخيه العراقي على المستوى الشعبي وكان له حرية التنقل أينما ذهب الى البصرة أو العمارة أو الرمادي أو الموصل أو بغداد والى أية بقعة ومدينة عراقية، وكذلك الحال بالنسبة للعراقي كان له ثقة مطلقة بأخيه الكوردي وكان له مطلق الحرية في التنقل أينما ذهب الى اربيل او السليمانية أو دهوك أو أية بقعة ومدينة كوردستانية، وكان في أغلب الأحيان كل منهما يستقبل بحفاوة وضيافة كريمة، ولكن ما يؤسف له أشد الأسف المليء بالمرارة والألم أن هذا الحال قد تغيير في واقع يومنا هذا فلا ترحال ولا سفر فيه أمان وثقة للكوردي الى المناطق خارج المحافظات الكوردستانية خاصة منها بغداد ومحافظات الوسط العراقي، ولكن ما يعوض أهل الخير والشرفاء من العراقيين أن الكورد ظلوا على وفائهم وطيبتهم الكريمة فقد طاب لكل عراقي أن يجد أمانا وسلاما على أرض كوردستان وأن تصبح لهم هذه الأرض الطيبة حاضنة كريمة لهم ولأطفالهم ولعوائلهم الى حين استقرار الأوضاع واستتباب الأمن في المناطق العراقية التي تعاني من الإرهاب والفتنة الطائفية.


أجل تلك المظاهر الأليفة للطيبة والثقة والعامل بالحسنى والكرم بين العراقيين تغيرت في واقع حالنا الآن بفعل سندان الإرهاب الذي فرض عليهم بفعل من مراكز دولية إرهابية ومطرقة الطائفية التي فرضت عليهم بفعل قوى خارجية متسمة بالشعوبية الحاقدة، وصار الحال الذي يعيش فيه أهل العراق لا يمكن وصفه إلا بالجحيم بين قتل ودمار يومي لأرواح بريئة ونفوس طاهرة بالأحزمة والمفخخات والعبوات الشيطانية وأزمات خانقة للحياة لا مشهد فيها سوى مشاهد المأساة والمعاناة والآلام الشديدة والإهانات ولا هدف منها سوى زيادة اليتامى والأرامل والثكالى والبؤساء والمساكين، مشاهد مرعبة رهيبة بائسة يعيشها العراقييون بصباحهم المبكر ونهارهم المقصر وليلهم المظلم دون توقف بلا رحمة ولا شفقة ولا إنسانية وكأن كل الأشرار المخلوقة في السماء والأرض لم تقدر على إيجاد أرض مبيت لهم إلا أرض العراق لتخرب فيها وتعبث فسادا فيها حسب أهواء ومخططات مراجعهم الشيطانية التي لا تريد إلا الشر والشر ثم الشر بهذا العراق والشعب الطيب.


ولكن كما قيل في الماضي ما أضيق العيش لو لا فسحة الأمل، فان فسحة الأمل التي يرتجى منها فتح أبواب الخير على العراقيين ليعودا الى حياة طبيعية بعيدة عن مشاهد الألم في الواقع الراهن، هي إدامة الحياة من قبل العراقيين أنفسهم برغم مفرداتها الصعبة وتفاصيلها المؤلمة وصفحاتها الشاقة وسط بركان هادر يحيون فيه ووسط جحيم صاخب يعيشون فيها، هذه الحياة القاسية فيها إصرار على حماية العراق وفيها ثبات على مقاومة الإرهاب والفتنة الطائفية، حياة فيها ولادة لفجر مبارك لا بد أن يشرق على العراقيين عاجلا او آجلا رغم العدى ورغم أنف المعتدين والإرهابيين والشعوبيين والوهابيين التكفيريين، ورغم أنف كل القوى الشريرة المجتمعة على حدود العراق التي لا تريد لهذا الشعب الطيب الأصيل أي خير، وهذا اليوم الذي سيشرق فيه فجر العراقيين لا بد أن يكون قريبا وهو قريب بعون من الله العزيز الرحمن الذي قال للنار كوني بردا وسلاما لإبراهيم الذي سكن أرض العراق ومنها اتجه الى الجزيرة القاحلة ليبني فيها بيتا للتوحيد لعبادة الإله الواحد، ولعراق إبراهيم ويونس وإسحاق وعلي والحسين وصلاح الدين الأيوبي والفراهيدي والمتنبي وعبدالقادر الكيلاني لا بد أن يكون له رب يحميه، يحميه من الفتنة ونار الطائفية ومن نار الإرهاب، ليخرجه من الظلمات الى النور، وليريح أهل العراق من كل هذه الهموم العصيبة التي حان لها أن تترك أرض العراق وأن تذهب بلا رجعة ليعيشوا بسلام وأمان، وما بكائية هاوار الا أمل متجدد للعراقيين لاطفاء نار الارهاب والفتنة في العراق.

د.جرجيس كوليزادة
[email protected]