قرأت مثل غيري بعض الكتب التي أصدرها المؤرخ العراقي الموصلي سعيد الديوه جي، وكنت أسمع بأسمه من خلال تصفحي لمراجع الكتب التأريخية التي كنت شغوفا بمطالعتها، ووجدت العديد منها ما يستند الى ما كتبه المؤرخ سعيد الديوه جي، وتابعت وجهات نظره في كتابة تأريخ الموصل أو في كتاباته عن الأيزيدية، ومن ثم أسهاماته في الكتابة التاريخية بحكم عمله في دائرة الآثار، بالأضافة الى ما أكتسبه من معرفة وثقافة بحكم تنقله في دوائر عدة.


وحين عملت في قضاء مدينة الموصل كان لصديقي الصحفي الكبير المرحوم عبد الباسط يونس الفضل الكبير في وضع الصورة الإنسانية لهذا المؤرخ الكبير والمتواضع أمامي، وكان من المعجبين بما قدمه الديوه جي للثقافة والتاريخ العراقي، وبالإضافة الى مساعدتي في تزويدي بالعديد من الإصدارات التي غابت عن المكتبات، وخصوصا بعد أن لمس شغفي بالكتابة التأريخية، وبالأخص متابعتي قضية الأيزيدية والشبك في العراق. وبداية كتاباتي ومعلوماتي المتواضعة عنهم، وكنت قد تعرفت على المؤرخ الجليل قبل أن أن التقي به، من خلال ما أسمعه من إطراء ومن مديح يستحقه، مع معرفتي المتواضعة بالعوائل الموصلية ومنها عائلة الديوه جي التي تتمتع بسمعة عالية وطيبة.
و المرحوم سعيد الديوه جي من اسرة عريقة بالموصل فهو ابن القاضي المعروف احمد افندي وابن أخ علامة اشهر اسمه عثمان افندي، اذ كان كل من ابيه وعمّه من أشهر علماء الموصل. ولد سعيد افندي الديوه جي في العام 1912 ونشأ في كنف عائلته ودرس في المدارس ثم اكمل علومه بدار المعلمين العالية في بغداد، وعاد ليقضي ردحا من السنين في التعليم فنشأ وتخرج على يديه عشرات المثقفين والمعلمين، ومن ثم تم تعيينه في العام 1944 مديرا لمعارف الموصل، ونقلت خدماته الي مديرية الآثار العامة حيث تم تعيينه في العام 1952 مديرا لمتحف الموصل لسنوات طوال، حيث عمل علي اغنائه بكل جديد فضلا عن اغناء مكتبته المعروفة بالمخطوطات وأمهات الكتب حتي تقاعده في العام 1968.. ونشر سعيد افندي العشرات من المقالات والدراسات والكتب تأليفا وتحقيقا وساهم في بعض المؤتمرات العلمية داخل العراق وخارجه، ومن ثم تقاعد عن العمل وقّضي بقية سنوات حياته في داره وبين كتبه وأوراقه وبحوثه التاريخية، ورحل قبل سنوات قليلة عن الدنيا بعد اغنائه تاريخ الموصل المجيد اذ عّد احد ابرز من كتبوا تاريخها واعتنوا بمواريثها وآثارها الخالدة. كان يهتم بالمخطوطات كثيرا، ولعل كتابه عن تأريخ الموصل عرفانا ما لهذه المدينة وأهلها من فضل على الديوه جي وهو أبحد أبنائها الأبرار، فرسم تأريخها بحيادية وبعلمية ورصانة وبأستذكار جدير بالمطالعة، ويعتبر كتابه عن تاريخ الموصل أحد المراجع التي تشير اليها الدراسات التاريخية والأكاديمية والبحوث.
وكان المرحوم الديوه جي قد أصدر في العام 1940 كتابه ( الفتوة في الأسلام )، ثم كتاب ( الأمير خالد بن يزيد ) في العام 1953، وفي العام 1956 مجموع الكتابات المحررة في أبنية مدينة الموصل / جمعها نقولا سيوفي ; عني بتحقيقها ونشرها سعيد الديوه جي، وفي العام 1958 كتابه ( الموصل في العهد الأتابكي )، منهل الأولياء ومشرب الأصفياء من سادات الموصل الحدباء / تأليف محمد أمين بن خير الله الخطيب العمري (1203هـ) ؛ حققه ونشره سعيد الديوه جي في العام 1967، ثم كتابه ( أشعار الترقيص عند العرب ) في العام 1970، ثم كتابه القيم ( اليزيدية ) في العام 1973، وتأريخ الموصل في العام 1982 ثم كتابه نهر الحر بن يوسف في الموصل في العام 1989.
وتشاء الصدف أن اقرأ أسم محامية شابة قدمت طلبا في بعض شؤون العمل القضائي أثناء عملي كقاض في محكمة بداءة الموصل، مقترنا أسمها بلقب الديوه جي، فما كان مني الا إن ارجوها أن تساعدني في التعرف على المؤرخ الكبير، وزاد تلك الصدفة حظا أن تكون تلك المحامية حفيدة ذلك الرمز العراقي، حيث نقلت تلك الرغبة الى هذا الإنسان الجليل، وزادني شرفا أن يتفضل الديوه جي بأهداء كتابه ( اليزيدية ) مع توقيعه مقترنا بأهداء جميل بخطه الكريم.
وتحققت رغبتي في اللقاء بالديوه جي في منزله بحي الثورة بمدينة الموصل، حيث قصدت الحي الذي يسكنه بعد أن حددت موعدا للزيارة، ووجدته في صومعته الصغيرة، شيخا كبيرا أخذ من جسمه الدهر ولكنه بقي متوقدا وشامخا، ولمست فيه تواضعه المقترن بالثراء العلمي الذي يختزنه هذا الرجل، وبعد إن رحب بي وأشاد بسمعتي في مدينة الموصل وتلك شهادة أعتز بها، وكان مسرورا بأهتمامي بقضية الشبك والأيزيدية، حثني على متابعة التقصي والكتابة عن الشبك والأيزيدية وأشار لي لمراجعة بعض الكتب والمراجع التي أفادتني كثيرا، وتحدث لي عن أحداث وقصص سجلتها عنه وبحضوره وأذن لي بنقلها، قام الديوه جي تلك القامة العراقية الكبيرة بنفسه يقدم لي الشاي بيده الكريمة المرتعشة، حيث لم يقبل أ ن يتقدم أحد لخدمتي غيره، مما زادني اعجابا وتقديرا له وهو بهذا العمر الجليل.
تحاورنا وتناقشنا واختلفنا في الآراء، غير أن الرجل كان صادقا في تحليلاته التاريخية واثقا من وجهات نظره متمسكا بها، وزاد اعجابي وتقديري له أنه خالف العديد من المؤرخين الذين طعنوا بالأيزيدية والشبك، فنفى جميع الطعون الأخلاقية وسفه تلك الآراء التي قيلت بحقهم، فزادني أحتراما وتمسكا به.
وكانت لمساجلاته مع زميله الموصلي مجيد خدوري على صفحات مجلة المجلة الأثر الكبير في أغناء البحث وحرصه على الحقيقة، كان سعيد الديوه جي يحترم مكانته العلمية ودوره كمؤرخ محايد ولذا كان لايجاري السلطات التي تريد تزوير حقائق التاريخ، ولم ينسجم معها، ولذلك فقد اعتكف لأغناء دراساته وبحوثه.
زادني حيرة مايلقيه هذا الشيخ الشامخ من نسيان متعمد من قبل السلطة التي لم تستطع أن توظف علميته لصالحها، وبقي هذا العالم الجليل يعيش حياته صامتاً بين جدران بيته واضعاً نفسه في خدمة البحث والباحثين وطلبة الدراسات العليا، وبتواضع جم كان يفتح قلبه للباحثين الشباب ويوظف وقته وراحته لخدمة البحث العلمي الرصين، فيقوم بالتصويب والإرشاد والاختلاف في سبيل الوصول الى الحقيقة التاريخية، ورغم عمره الكبير كان مثابراً في تقصي الحقائق والبحوث وشخصية متماسكة وجديرة بالتقدير وكثير العطاء متواضعاً الى درجة لاتوصف، فتح لي الرجل قلبه ومكتبته وأهداني من كتبه بعد أن ذيلها بتعابير التقدير والود والمحبة والتي حملتها معي في غربتي.
وبقيت مديناً بالكثير لهذه القامة العراقية الأصيلة، حتى وصلني نبأ رحيلها الى بارئها نظيفة القلب واليد واللسان، لم تجروء سلطة صدام أن تقترب منه أو تحاول أن تقنعه بتزييف الوقائع والتاريخ، رحل سعيد الديوه جي وتبقى ذكره العبق وتراثه الخالد ومآثره الجليلة وأعماله وكتبه ومخطوطاته العديدة ومكتبته الجميلة وأسماً يتناقل بين كل زوايا تاريخ العراق.
رحل سعيد الديوه جي بعد أن اعطى الكثير، وسطر سجلا حافلا من العطاء الثقافي، وخلف بعده سمعة وتواضعا يتصف به العلماء الكبار.
ويستحق المؤرخ الكبير المرحوم سعيد الديوه جي أن نكرر له قول أبن عبد النور الذي قال:

تجر الموصل الأذيال فخراً على كل المدائن والرسوم
بدجلة والكمال هما شفاء لهيم أو لذي فهم سقيم
فذا بحر تدفق وهو عذب وذا بحر ولكن من علوم
يبقى سعيد الديوه جي علما عراقيا بارزا اعطى للثقافة العراقية، وكتب التاريخ بحيادية وعلمية وامانة مشهودة، وفوق كل هذا وظف كل أمكانياته لطلاب العلم ودارسي التاريخ والشهادات الأكاديمية العليا، متواضع تواضع العلماء، نهيب بأهل العراق الجديد من المنصفين والحريصين على الرموز العراقية أن يتلمسوا تركة الرجل الثقافية وعطاءه الوطني، وشيء من الأنصاف لهذا الطود الكبير وهو راحل عنا، لعل هذا الأنصاف والتذكر يغطي ما لحقه من تهميش.
يقينا أن ما نكتبه عن سعيد الديوه جي لن يفي عطاء هذا الرمز والمؤرخ الكبير، ولكننا على ثقة أن العراق سيلتفت الى هذه الرموز، وبالرغم من أنها فرضت نفسها بما قدمت من عطاء تأريخي وجهد متميز تضمه المكتبة العربية، وتفتخر به المكتبة العراقية، ليصير سندا ومرجعا للباحثين وكتاب التاريخ في المستقبل، وأن العراق سينصف تلك الأسماء ويفتخر بها.
وسأقف اجلالا لذكرى أبا أبيّ، وتحية خالدة لهذا الإنسان المعطاء.

زهير كاظم عبود