لم يزل عبد الوهاب البياتي يرتقي اسوار بغداد ينافس الطيور تحليقها فوق أضرحة موسى الكاظم وعبد القادر الكيلاني وابي حنيفة ومقابر الأولياء المتناثرة ومآذن الجوامع العتيقة، ولم يزل يحمل فوق مساحة الحزن التي تتيح له مشاهدة مايجري للعراقيين شموعاً لاتطفأها الرياح بكل الوانها، بالرغم من مرارة المنفى وغربة القبر وجراح البعد عن الوطن والأماكن التي يعشقها من القلب، وحرقة الروح التي لايعادلها سعير النار.
يقول البياتي:
(( مهما طال حوار الأبعاد... فستبقى بغداد.. شمساً تتوهج.. نبعاً يتجدد.. ناراً أزلية.. رؤيا كونية لطفولة شاعر )).
عشتار والنهار والمدن المسحورة وقباب الجوامع والازمنة المختلفة الحاضرة والغائبة المختلفة الأقدار، الثلج الذي يشبة قلوب أهل كوردستان، عائشة وهند والكلمات المقدسة، دجلة والفرات والوند والخابور والزاب والكحلاء، باب الشيخ والمقهى البرازيلي ومقهى ريش، والهرم والشيخوخة، الاصفاد والرموز والأحرف الملتوية، قوس قزح الارض والسماء، الاستشهاد والخلود، الغربة والوحشة، هالة النور والأختمار الروحي والحنين الذي يحز نياط القلب واختلاطات اخرى يطول عنها الحديث يكتبها لنا عبد الوهاب البياتي على ضوء القمر فوق ماء الأهوار التي نشف ريقها، و ينقش لنا البياتي أشعارا طافية فوق ماء الفرات الذي عاد ازرقاً دافئاً بعد أن طغى عليه الخبط، يزينها بالورد من فوق جبل كرد مند لتصل فوق مسامات هوائنا اللاهب الى أقصى الجنوب، ويقول لنا أن بغداد أغرودة المنتهى وعروس العصر الخالية.
ولكنه يعتلي أسوارها في الليل لم يزل يرسل بشاراته في الغد الذي يصنعه الأنسان تحت النجوم، والمكلل بالحب والخبز والأزهار، والمجد للعراق وأطفاله الذين يتبرعمون مثل ورد الليمون الأبيض الفواح، ويبدعون وسط خوفهم ومحنتهم ووسط كل زحام الحزن والألم والدم والموت والأرهاب، ينتظرون الأمل الحلم وحلم آبائهم في وطن يرفل بالحرية وأنسان مكلل بالسعادة والفرح وقمر يضيء في الليل عتمة الروح ووحشة الطريق.
مسكون بأجنحة العصافير يكتب اشعاره فوق ريشها لعله يصل في الليل بغداد حين تنام الناس ويهدأ النهر وتتوقف التفجيرات في أحياء الفقراء، او لعل ريشها يتساقط فوق أرض الجنوب ورمال السلمان الناعمة التي حافظت بمروءة على جثث اهلنا، ولعل بعضها يضعها فوق موجات دجلة شموعاً طافية قبل أن يخترق جسد بغداد فتتحزم فيه عند الخاصرة.
او لعلها تعتلي ناعور الماء عند ضفاف الفرات في حديثة أو عانة أو في الترع الصغيرة حين يتشظى الفرات قبل السماوة، او لعله يضع اشعاره فوق رؤوس النخيل قبل أن يطلع وتفوح رائحة الشعر منها، يظفرها مع ظفائر نخيل السماوة، بل لعله يحمل روحه فوق أول موجة ماء حين يدخل الزاب مندفعاً.
والنار التي تتوهج تضيء كلمات عبد الوهاب البياتي ويصنع منها مغازل لأيامة التي بقيت وروحة الهائمة فوق سماء بغداد، يرسل لرفاقة وأصحابه رسائلة، ولعل من بينها رسالة الى (( علي السوداني )) يسأل فيها (( عن طيف )) وعن (( عمر )) والمجد للأطفال والزيتون.
ولكنهما لم يعودا طفلين ايها الكلمة الساحرة والقمر البغدادي فقد كبرت المسافات وبعدت الأرواح يا أبا علي.
ويسأل البياتي عن موعد لقاءه بالعراق فمن اجل عيون العراق كل غربته، ومن اجل عيون العراق كل وحدته، ومن اجل عيون العراق عذاباته، ويختزل حلمه في سماء العراق حيث تمتزج فيها الأقمار والهلاهل مع خيوط الشمس بالسحر، فيصير ليلها ليس كليل المدن وبقايا عواصم الدنيا، لكنه الحلم الذي لم يتحقق.
وهو الذي يسمع البحر يتنهد والهواء يتبادل عبارات الغزل مع السماء عند ازرقاقها، وهو الذي أستطاع ان يطوع العصافير لنقش كلماته فوق ريشها فيتميز ريشها عن كل عصافير الدنيا.
لم يزل يهيم فوق سماء بغداد يوزع المحبة فوق بيوت العراقيين لم تردعة الغربة ولاوحشة القبر ولامسافة الطريق ففي بقايا روحه ثمة مطر وخير وعطاء.
البياتي الذي يصنع فضاءه ويتنقل بأنزلاق سهل فوق منارات بغداد وعبر جسورها، سهران غير انه لم يرتبك ولاهده تعب الرحيل، ثمة شعراء يحلقون فوق بغداد ينثرون قلائدهم وقصائدهم فوق حشود اليتامى وقبور العراقيين في مقابرهم التي لم يكترث لها العالم، كافكا ورامبو ولوركا وبدر شاكر السياب، ثمة صهيل ليلي صوب الجواهري وبلند ومصطفى جمال الدين ومواكب من فرسان الكلمة.
لم تعد ثمة قطعان تقطع ليل العراق، لم يعد الليل يوغل في الشوارع يقضم النهار، القطارات تصفر بفرح مثل الطيور، ووسط الجمع يقف البياتي رافعاً يده اليمنى وباليسرى قصيدته التي تقول نبوئته عن العراق.
(( النابحون تمزقوا
كضفادع النهر الصغير
باعوا الضمير
رقصوا على شتى الحبال
صنعوا القباب
من حبة... لكنها شمس العراق
طلعت عليهم
احرقت تلك الحبال..... فيا رياح
هبي وياقلبي المعرى في الصقيع
شد الجراح على الجراح
ففي غد يأتي الربيع
عبر المحطات الصغيرة والليالي والعذاب
عبر الضباب ))

كثر النباح على العراق يا ابا علي وشحذ العديد من الأعراب والأغراب سكاكينهم يريدون أن يذبحوا العراق من الوريد الى الوريد، ومن ثم يلتقطوا الصور التذكارية مبتهجين أحتفالاً بالدماء، وتقافزوا وتصايحوا وتناخوا لأتمام فعلتهم، ملطخة وجوههم بدماء أطفالنا ومتسخة أياديهم وقلوبهم بفعل الحرائق والقنابل المفخخة، نسجوا من لعابهم خيوط لحجب شمس العراق لكنها طلعت عليهم وأذابت خيوطهم وخطوطهم وساحت اقنعة وجوههم رغم صراخهم كما تصرخ الحيات فحيحاً حين تنسحق الرؤوس، باطل ماصرخوا به من مزاعم، كل المزاعم واهية، وكل الأدعاءات محترقة، سيشد العراق جراحه على الجراح وفي الغد يأتي الربيع عبر الضباب.


أجراس متناغمة مع اقمار بغداد والمجد للأطفال والأنتظار وصناعة الكلمات والحروف وأطلالة الفجر، ووجع يرحل في أقصى البادية، وبغداد تبقى عروسة المنتهى.
والنابحون تمزقوا رقصوا على كل الحبال، وغياب البياتي بعد ان تحققت نبوئته الشعرية فغداً يأتي الربيع الى العراق، وحتماً سياتي الربيع ومعه شمس العراق، وتشرق الشمس التي تتكشف العورات والظلمات وينحسر الوباء وتنفتح المرايا والسماء وتشع أقمار الليالي فوق بغداد الجميلة، وشموع ترقص في ثنايا دجلة السهران حتى مطلع الفجر، حيث تنقر البلابل ماتبقى من ثمار التين، وأعشاش يتكاثر فيها السنونو بأروقة الجوامع والبيوت العتيقة وزمان اليباس الذي انقرض وفيوض من الضوء والمطر الشتوي وقطارات تغني على انغام الجالغي البغدادي أو دبكة الجوبي ورقصات الكورد.
ونبوءة الشعراء قاموسهم ومفتاح كلماتهم وسرهم الأزلي، لم يتقدمهم المتنبيء ولاالجواهري ولم يتأخر عنهم عبد الأمير جرص ولاسعد جاسم أو عدنان الصائغ ولاعلي عبد الأمير ولاعبد الخالق كيطان فكلهم متنبيئين وعرافين مثلما يقولون.


ولكن عبد الوهاب البياتي الذي لم تكتحل عيونه بليل بغداد ولالامست اهدابه قمر الكرخ ولاأحتظنت تربة السهروردي جثمانه بعد ان رحلت روحه في سماوات بغداد قادمة من غوطة الشام، تنبأ بكل النباح الذي صار أو سيصير فباعة الضمائر جاهزون وسارقو الأحلام والحواة المدججين بثعابين الكلمات المبرقعة، والصباغين الذين يلونون ويزيفون الكلمات الجاهزة في كل العصور العراقية، ولكن البياتي مثلما تنبأ برقصهم فوق الحبال قال كلماته الخالدة، لكنها شمس العراق التي تحرق ليس فقط حبالهم وأنما تحرقهم وتطهر أماكنهم من رجس الشر وتعويذة تمنع ولادة عقارب الزمن العراقي المرير.
وهذا زمان الحلم العراقي حيث تكون شمس تموز طهارة لجروح العراق وبلسماً يشفي مانال العراق من الجراح.
لكنه العراق الأزلي سيتلتئم الجراح ويتوقف النزف ويعود كما كان العراق عراق!!
وهي نبوءة الشاعر!!!

زهير كاظم عبود