وقع خبر رحيل الكاتبة والناشرة اللبنانية مي غصوب على الأوساط الثقافيةكالصاعقة. مي، صاحبة quot;دار الساقيquot;، احدى أكبر وأشهر دور النشر في العالم العربي، لم تكن مجرد ناشرة وكاتبة أسست دارا للنشر فحسب.


مي، بدارها، وبرؤيتها، أسست وطنا للمبدعين العرب المنفيين من أوطانهم قسرا، والمحشورين في زوايا المدن المنسية.


مي دعت كل أولئك المتمردين في كتاباتهم، والضاجين في عوالمهم الإبداعية لوطن حر، لا تسقفه الرقابة العربية، ولا تقيّده مساومات بعض الناشرين.


خبرت، كما فعل غيري، التعامل مع دار الساقي منذ ما يزيد على أربعة أعوام. وطيلة هذه الفترة، راحت قناعتي تترسخ بأن دار الساقي تعني وطنا افتراضيا، ولا تكتفي بعلاقة عابرة مع كتابها وكاتباتها.
أنا الذي جئت من السودان مطرودا ومرهقا من القمع ومصادرة الحروف ومنعها، ومن مزايدات الناشرين، لقيت في دارها مدينتي الضائعة، نشرت حروفي على شبابيكها، وأطلقت عصافيري في فضاءاتها، وغسلت قدميّ في بحرها. كانت جريئة في زمن عزّت فيه الجرأة، ومعنية بالثقافة والأسئلة الكبرى في الحياة، تلك الأسئلة التي لا يمكن الإجابة عليها، ولا يمكن أن يتم طرحها إلا في الكتب. وكانت مشغولة على الدوام بنشر الوعي والثقافة الرصينة في زمن أضحت فيه الثقافة هي منتجات quot;التيك أويquot; في كل شأن من شؤون الحياة.. حتى الفنون!!


لرحيلها وقع حزين جدا على النفس، ولغيابها لوعة غياب القصائد، هل يتخيّل المرء أن يحيا من دون شعر أو موسيقى؟


ومن سيشرع في وجوهنا بوابات وطن جديد بعد أن رحل الوطن المسمى مي غصوب؟!
يقيني أن أمثال مي، يضيفون ويضفون إلى الحياة وعليها الكثير. فثمّة قضية، متصلة بالحرية والإبداع والوعي، كانت تعمل عليها مي. وثمّة هواجس متعلقة بالذات المبدعة وبالذوات المبدعة الأخرى، كانت تمور في أعماقها. ليست المسألة كسبا ماديا، وإلا كانت اتجهت لاستثمار يدر عليها دخلا وفيرا في quot;ادجوار رودquot; أو quot;شارع الحمراءquot;. وليس بعيدا عن ذلك الشارع، اختارت أن ترسم حدود وطنها الكبير. حتى الحرب المجنونة في بلادها لم تمنعها من مواصلة رسالتها من لندن.


رحم الله مي، فقد أضافت للوعي وللعقل العربي، وناضلت بشرف في سبيل الحرية والإبداع والمبدعين، ونشرت للكتاب quot;المغضوب عليهمquot;، وظلّت على نهجها الثابت إلى آخر يوم في حياتها الحافلة.

خالد عويس *
[email protected]

* روائي وكاتب سوداني