قرأت خبراً أضحكني جداً، كوني عاينت مثله في أستراليا ، أثناء حضوري حفلة فنانة لبنانية معروفة، لن أذكر اسمها، تقديراً لها ولصوت استرحامها المتعاركين كي يهدأوا ويعقلوا، ويعودوا الى طاولة الفرفشة والحوار.


وصدقوني إذا قلت ان نداء استغاثتها، رغم مرور السنين، ما زال يطن في أذنيّ، خاصة وأن الجمهور المتدافش لم يسمعه على الاطلاق، وكيف يسمعه وصراخ المتشاجرين يصم الآذان ويدعو كل ذي عقل وبصيرة الى الهرب.


والخبر يقول ان مشاجرة جماعية حصلت في ريف دمشق بين أفراد من خمس عشائر بسبب رقصة الدبكة الشعبية.


والظاهر أن كل عنتر من عناتر العشائر الخمس أراد أن يبزّ الآخرين (بخبطة) قدمه على الأرض، تيمناً بأغنية فيروز الشهيرة:
خبطة قدمكن ع الأرض هدارة.. هدارة.. هدارة
ليسحر برقصته الصبايا، علّه يحظى بحبيبة، أم بزوجة، أم بعشيقة لا فرق، المهم أن لا يطلع من مولد الدبكة الشعبية بدون حمّص.


إلى أن هدرت القبضات الفولاذية والعصي والحجارة فأصيبت امرأتان مسكينتان أرادتا الرقص فحصدتا اللكمات والألم والنوم في المستشفى.


وبما أن الشعوب العربية تتمتع، والحمد لله، أنّى حلّت، بأرجل متشابهة، وبدبكة واحدة، سورية كانت أم لبنانية، فلقد أشعلت الدبكة ليل سيدني أيضاً، وجعلت الشرطة الأسترالية تلعن كل ما يمت الى الرقص بصلة، كما أن زمامير سيارات الاسعاف قد طيّرت النعاس من أعين الآلاف من سكان الضواحي المجاورة للقاعة.
لماذا؟!.. لأن امرأة جميلة ومهضومةً جداً، نزلت على الدبكة، كما نقول في لبنان، وأرادت أن تمسك بيد آخر رجل في ذنب الدبكة، كون الدبكة تسير كالحية، لها رأس وذنب، رأسها القائد وذنبها كل من أراد الالتحاق بالرقصة، فرفض أخونا تسليم أصابعه الخشنة لأصابعها الناعمة، لسبب ما، فغضبت أختنا من تصرفه الأرعن، ونزعت عنها ثوب الجمال والأنوثة، وعادت الى طاولتها المجاورة لطاولتي والشرر يتطاير من عينيها، وراحت تهمس في أذن زوجها أشياء وأشياء والدموع تترقرق على وجنتيها الخجولتين.
وما هي إلا لحظات حتى هبّ أبو زيد الهلالي حاملاً قنينة ويسكي، وهجم على حلبة الرقص ليقذفها على رأس الرجل الذي لم يشبك يده بيد زوجته، ويشج رأسه.


هنا، قامت القيامة ولم تقعد، إذ انحشد للرجل المغمى عليه جميع الرجال الجالسين على طاولته، وبالمقابل انحشد للرجل الضارب جميع رفاقه.. لدرجة أصبحنا معها عاجزين عن الهرب، لكثرة المتعاركين والمتدافشين والمصلحين. ناهيكم عن الصحون الطائرة التي كانت تصيب رؤوس الناس الآمنين دون أدنى شفقة.


وصدقوني أنني كنت محظوظاً جداً، كوني كنت أجلس قرب المطبخ، فدخلت إليه لأجد الطباخين يأكلون ما طبخوه لنا، نكاية بنا وبجميع فنون الدبكة الشعبية التي وجدت أصلاً للتضامن والتكاتف والتعايش والتسامح والتلاقي، فأصبحت كالدين مصدر شرّ، ما ان تعقد حلقاتها حتى تظهر شراراتها وويلاتها.
العبرة من هذا كله، أن الشعوب العربية لا تجتمع إلا من أجل الشجار والقتل وزرع الفتن، وكأننا لا نستأهل العيش الكريم كباقي الشعوب.


فمن غيرنا، يتعارك أثناء تأدية الصلاة، كما يحصل الآن في عالمنا العربي؟
ومن غيرنا يرمي العديد من القتلى والجرحى أثناء مشاركته باحتفالاته الدينية؟
ومن غيرنا يهلل لبطولات الذين يفجّرون أنفسهم بأطفالنا ونسائنا وشيوخنا باسم الدين، بينما العدو يحصي عدد موتانا، ويساعدنا في نبش قبورهم؟
ومن غيرنا إذا رقص أشعل حلبة الدبكة حقداً حتى لا تتمكن كل سيارات الاطفاء من إطفاء نار همجيته واستبداده؟


من غيرنا، بربكم قولوا، يصطحب عقليته العربية المتزمتة المريضة أنى رحل، فيشوه بها البلد الذي يستضيفه، ويجعل كل من يشاهده أو يعاشره أو يستمع اليه يلعن ساعة وصوله الى بلده، كما يحدث الآن في كثير من بلدان الله المتأففة منا.
لقد تعب الكون منا ولم نتعب بعد من جهلنا وجاهليتنا وفحيح ألستنا الحاقدة. ومع ذلك نقول: نحن أفضل خلق الله.. قولوا: ألله!

شربل بعيني