بين الحين والآخر يخرج علينا بعض من يسمون أنفسهم كتاب ومثقفين ظَهَر أكثرهم بعد 9 نيسان 2003 بمقالات لاتتعدى كونها مواضيع إنشائية يعبرون فيها عما يختلج في نفوسهم من إشكالات تجاه الآخرين لم يكن يتسنى لهم كتابتها بل ولاحتى التفوه بما بين سطورها قبل ذلك التأريخ من ضمنها موضوع إنشائي نشر قبل أيام بعنوان (من ينقذ كبرياء الجيش العراقي من سلطة رئيس أركان الجيش الكردي) لشخص لطالما تجاوز على شرائح عديدة من أبناء الشعب العراقي رغم أنه يدعي الليبرالية التي لانجدها ولانلمحها بتاتاً في موضوعاته الإنشائية وهي ليست المرة الأولى التي يتطاول فيها أحدهم على أكراد العراق ذلك المكون الأساسي والمهم في تركيبة وكيان الدولة العراقية والذي بدونه لايكون هنالك العراق الذي نعرفه.. والمشكلة في كلام هؤلاء هي أنه لو كان موجهاً فقط للسياسيين الأكراد لقلنا بأنهم يختلفون معهم في وجهات النظر وهذا شأنهم وشأن السياسيين ولكن أن يطال التجاوز أكراد العراق كقومية برمتهم ممن بني العراق على أكتافهم وبعرقهم وبدمائهم مع أخوانهم من أبناء القوميات والطوائف والأديان الأخرى فهذا ما لن نسكت عنه كما لن نسكت عن أي تجاوز يطال غيرهم من أبناء العراق..لذا فإنني لن أرد على موضوع المقال بالذات أولاً لأنه لايستحق الرد وثانياً لأنني أترفع عن الدخول في مهاترات مع كاتب الموضوع لكنني سأحاول أن أوضح لمن ضعفت أبصارهم وبصيرتهم ولمن يصمون آذانهم بعض الحقائق التأريخية الدامغة عن الدور الرئيسي والأساسي الذي لعبه الأكراد كأفراد لا كأحزاب في تأسيس الدولة العراقية والجيش العراقي وفي إزدهار المجتمع العراقي خلال العصر الحديث.


يردد كاتب الموضوع الإنشائي المذكور عبارات من قبيل (إننا سكان العراق العرب البالغ نسبتنا 80 % وبأعتبارنا الاكثرية الساحقة التي قامت ببناء العراق بعرقها وإبداعها ودافعت عنه في الحروب وأعطت الدماء) أو (على الأكراد أن يفهموا إن العراق وطننا نحن الأكثرية العرب ومعنا أبناء شعبنا المسيحيين والتركمان والصابئة وليس وطنهم وعلى الأكراد أن يرحلوا عن بغداد فهم غرباء بيننا) وهي عبارات لايمكن أن تصدر سوى عن ذهنية منغلقة وعقلية متعصبة وهذا هو شأن كل الكتاب الذين كتبوا ويكتبون بهذه الطريقة ضد أي مكون من مكونات الأمة العراقية.. وهنا يظهر الفرق بين من نشأ في بيئة منغلقة طائفياً وقومياً كأغلب هؤلاء الكتاب الذين ينظرون الى غيرهم من القوميات والأديان والمذاهب كأنهم قادمين من الفضاء وهو ماعايشناه مع الكثيرين منهم في المنافي وبين من نشأ في بيئة منفتحة على كل الأديان والمذاهب والقوميات كبغداد وماشابهها من المدن والذي لايفرق بين أبناء قومية وأخرى وطائفة وأخرى ودين وآخر لأنه قد تعايش وتزاوج وتجاور وتصاحب وعمل معهم لذا لايمكن أن تصدر مثل هذه العبارات من بغادلي أو بصراوي أو مصلاوي.. فبغداد كانت على الدوام وستبقى بإذن الله مدينة للحب والسلام والتعايش السلمي الإنساني بين مختلف ألوان البشر وهكذا يراها أبنائها وكل من يحبّها ويعشقها والأكراد كغيرهم جزء لايتجزأ من تركيبتها الأجتماعية وتراثها الشعبي والحضاري ويكفي أن أول أمين عاصمة لبغداد بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة وهو صبيح بك نشأت كان كردياً.. يقال شر البلية مايضحك.. وشر البلية هو أن يأتي يوم يظهر فيه مَن يدّعون بأنهم عراقيون مثلنا يتفوهون بعجيب الكلام وغريبه مما لم نكن نظن يوماً بأننا سنسمعه أو سنقرأه.. أما مايضحك فهو إن أغلب من تفوهوا بهذا الكلام وتجرؤا (لهوان الدنيا) على كتابته لاعلاقة لهم ببغداد لامِن قريب ولامِن بعيد فهم ليسوا من أهل بغداد ولاحتى من ساكنيها وهم غرباء عن مجتمع بغداد وأجوائها التي لم يعشها ولم يعرفها أغلبهم لأنهم لو عاشوها وعرفوها لما تفوهوا بمثل هذا الكلام وأنا على ثقة بأن جميعهم لايمتلكون سجل نفوس تعداد عام 1957 في بغداد.. لذا بأي صفة يطالب هؤلاء وغيرهم ممن لم يروا بغداد في حياتهم ولاحتى في الحلم بترحيل البغادلة الأكراد الذين يسكن بعضهم بغداد منذ مئات وآلاف السنين في منازل وأحياء شيّدوها بأنفسهم لايزال بعضها مرتبط بأسمهم ويمتلك البعض الآخر على الأقل سجل نفوس تعداد عام 1957 الذي لامناص من إعتماده إذا أردنا إنقاذ بغداد من الضياع والتشوه والإنمساخ.


أما بخصوص الجيش العراقي فيقول الكاتب الذي تحول الى مؤرخ (فطوال تأريخ الجيش العراقي الباسل مَن أسسه وسقاه بالعرق والدماء هم العرب من ضباط ومراتب) وهو كلام إنشائي مغلوط ولايستند الى أي وقائع تأريخية.. ثم يتحول فجأة الى عالِم نفس غير موفق كما تحول يوماً الى عالِم غيب غير دقيق ليهاجم الأكراد بقوله (ومن الناحية النفسية والوطنية يستحيل على العسكري العراقي العربي سواء كان ضابطاً او جندياً أن يتقبل كبرياءه تلقي الأوامر من ضابط كردي.. إذ ليس من المعقول أن يأتمر إبن البلد الذي يشكل وجوده 80 % من سكان العراق وبيده ثروات النفط وطوال تاريخ الجيش العراقي هو من ضحى بدمه دفاعا عن الوطن.. ليس من المعقول أن يتلقى أوامره العسكرية من ضابط كردي ليس له علاقة بالعراق) وكان الأولى به أن يهاجم محرريه الأمريكان الذين كان ومايزال حتى هذه اللحظة يُطبل ويزمر لهم ويروج لتحريرهم وأن ينتقد أفعالهم وممارساتهم التي كان في مقدمتها حل الجيش العراقي وكانوا ومن جائوا معهم أول من أهان كبرياء هذا الجيش الذي كان الضباط الأكراد في طليعة مؤسسيه ومُعِزّي كرامته وكبريائه.. لقد أرتبط تأريخ الجيش العراقي منذ لحظات تأسيسه الأولى بأسماء ضباط أكراد ففي يوم 6 كانون الثاني سنة 1921 إجتمعت مجموعة رائدة من الضباط العراقيين من العرب والاكراد في دار عبد القادر باشا الخضيري الواقعة على نهر دجلة في بغداد بقيادة جعفر باشا العسكري وهو ضابط عراقي كردي وهناك وضعوا اللبنة الأولى لتأسيس نواة الجيش العراقي من 14 ضابط كان 8 منهم من الأكراد وهم (الجنرال جعفر مصطفى العسكري والعقيد حميد أحمد والرائد سعيد محمد والرائد بكر صدقي والرائد توفيق وهبي بك آمر الكلية العسكرية والرائد عبد الرزاق حلمي والنقيب حسن حسين والنقيب محمد أمين زكي بك) وعندما تولى جعفر العسكري رئاسة الوزراء للمرة الأولى عام 1923 تقدم بمقترح الى المجلس التأسيسي يقضي بجعل الدفاع عن العراق واجب وطني وسن قانون للتجنيد الإجباري في العراق.. وكما كان للضباط الأكراد دوراً ريادياً في تأسيس الجيش العراقي فقد كان دورهم ريادياً في تطوير تركيبة وعمل هذا الجيش وساهموا مساهمة فعالة في تأسيس وتطوير وحداته آنذاك ومنهم بهاء الدين نوري ونامق حسن علي وجمال بابان وتحسين علي وعلي رضا وعبد الله نوري وأمين زكي وهادي مصطفى ومحمد صدقي ورؤوف سعيد.. كما إن مجموعة من الضباط الأكراد هم الذين ساهموا وباشروا في تأسيس الصنف المدفعي في الجيش العراق من أمثال جميل المدفعي وفؤاد المدفعي ومحمد فهمي المدفعي إضافة الى أن أول آمر فوج مشاة عند تأسيس الجيش العراقي كان كردياً وهو (الشيخ محمد أمين غفور).. وتوالت مساهمات الضباط العراقيين الأكراد الإيجابية والفعالة في مسيرة الجيش العراقي منذ تلك اللحظات الوضاءة لتأسيسه وتأسيس الدولة العراقية عام 1920حتى إنهيارهاعام 2003 والذي تلاه مباشرة حل هذا الجيش الذي كان دعامة أساسية من دعامات وجودها وبقائها.. فمن عائلتي فقط يوجد خمسة من ضباط الجيش العراقي الذين بذلوا دمائهم في سبيل العراق وقضاياه المصيرية بدئاً من حرب فلسطين 1948 مروراً بحرب 1967وحرب 1973وصولاً الى الحرب العراقية الإيرانية وحرب الخليج الثانية في الوقت الذي كان فيه بعض الذين يدعون الوطنية اليوم يرفعون السلاح بوجه ضباط ومراتب هذا الجيش وفي الجانب المعادي لهم.. فأين السيد الكاتب من كل هذا التأريخ المشرف والسفر الخالد للضباط الأكراد العراقيين الأصلاء خلال مسيرة الجيش العراقي.


يروي لنا التأريخ بأنه يوم كان البعض يفتي بعدم شرعية الدولة العراقية وبحرمة التعامل مع مؤسساتها الأمنية والإدارية والتعليمية لأنها كما كانوا يروجون(دولة مصطنعة).. كان الساسة العراقيين الأكراد من المدنيين والضباط في طليعة النخبة التي وقفت الى جانب الملك فيصل الأول وساندته وحاربت معه خلال الثورة العربية الكبرى وساهموا معه بعدها في وضع اللبناة الأساسية للدولة العراقية الحديثة وكان منهم وفي طليعتهم نوري باشا السعيد وجعفر باشا العسكري وعلي جودت اليوبي وجميل المدفعي وتحسين علي وأحمد مختار بابان وعلي رضا ومحمد حلمي وفؤاد المدفعي ونوري فتاح.. ويكفي أن الرجل الثاني بعد جلالة المغفور له الملك الخالد فيصل الأول الذي كان له الفضل في وضع اللبناة الأولى للدولة العراقية الحديثة هو الراحل أبو صباح نوري باشا السعيد الذي كان كردي القومية ولكن عراقي الهوى والعشق والإنتماء حتى النخاع.. لقد كان الأكراد على الدوام بذرة صالحة من بذرات المجتمع البغدادي بشكل خاص والعراقي بشكل عام ولبنة أساسية من لبنات بنائه وساهموا منذ مئات السنين في بناء بغداد والعراق وكانوا سباقين الى العمل والمشاركة الفاعلة بشتى مجالات الحياة سواء منها الأدارية أو الأقتصادية أو العلمية أو الثقافية ولا أدري إن كان كتبة هذه المواضيع الإنشائية يعلمون بأن الكثير من أعلام بغداد والعراق هم من أصول كردية فالمؤرخ إبن الأثير كردي وعالم النحو إبن الحاجب كردي والإمام الحافظ العراقي كردي وشاعرا العراق الخالدين الرصافي والزهاوي كرديين والعلامة مصطفى جواد كردي والمؤرخ كمال مظهر أحمد كردي وشاعر الحداثة بلند الحيدري كردي والمؤرخ محمد أمين زكي كما إن الكثير من مبدعات العراق وسيدات المجتمع البغدادي هن من أصول كردية وغيرهم كثير ممن لاتتسع مئات الصفحات لذكرهم.. وبالتالي لايمكن الحديث عن دولة العراق الحديثة وعن جيشه الباسل وعن عاصمته الجميلة بغداد بدون ذكر أبناء شعبه البررة من الأكراد الذي كان لهم الى جانب أخوانهم من الطوائف والقوميات والأديان الأخرى دور أساسي في كل.


لقد أصبح العراق بعد 2003 ساحة لكل من هب ودب ممن بدؤا يتوافدون عليه أفواجاً أفواجا من بعض دول الجوار تحت مسميات مختلفة وباتوا يقيمون في العراق وبعضهم مُنِح الجنسية العراقية بين ليلة وضحاها وهم ليسوا عراقيين ولا يمتون للعراق بصلة بل وبات يجري إسكانهم في بعض مدنه بدل أبنائها الأصليين الذين تجري عملية تهجيرهم وتصفيتهم وإبادتهم على قدم وساق منذ ذلك التأريخ وحتى هذه اللحظة وفق مخطط مدروس ليستبدلوا بهؤلاء الوافدين.. كما أن أغلب الجوازات التي تمنح اليوم للعراقيين الموجودين في خارج العراق يكتب لأصاحبها ولادة بغداد بغض النظر عن مكان ولادة ومسقط رأس صاحب الجواز وذلك وفقاً لخطة جهنمية مدروسة ومدسوسة يبدوا بأن الهدف منها هو تشويه وتدمير وتغيير الطبيعة الديموغرافية والهوية الإجتماعية لواحدة من أجمل مدن العالم وأكثرها تمدناً وإنفتاحاً وتحرراً وهي الحبيبة بغداد.. ولكن رغم كل هذا وذاك لانرى هؤلاء الكتاب يطالبون بترحيل أولئك الوافدين أو بتصحيح هذه الأخطاء بل يطالبون بترحيل أكراد بغداد من مدينتهم الأم.. لذا أعدكم بأنه سيأتي اليوم الذي سيقاضيكم فيه الملايين من أكراد بغداد وعربها وتركمانها ومسيحييها وصابئتها وإيزيدييها الوطنيين بل ومن كل العراقيين على هذا الخطاب التحريضي ضد مواطنين أبرياء وعلى ماتنفثونه من سموم ضدهم وأنتم الغرباء عن مجتمعهم والطارؤون على واقعهم.. واقع بغداد الجميل المتسامح العَصي على الفهم والعَصي على الإختراق من قبل أمثالكم.


ختاماً أقول لمن جاؤوا بعد 2003 مدعين بأنهم جاؤوا للدفاع عن حقوق بعض طوائف وقوميات العراق بدعوى أنها كانت مضطهدة.. أستحلفكم بربكم وأُحَكّم ضمائركم.. هل كان يجرأ أي شخص كائن من كان منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1920 وحتى إحتلالها عام 2003 على أن يخاطب أي مواطن عراقي مسالم لا علاقة له بالسياسة مهما كانت طائفته أو قوميته أو ديانته وعلى رأسهم أكراد العراق بهذه الطريقة ويقول له (لايحق لأحدكم أن يكون رئيساً أو وزيراً أو رئيساً لأركان الجيش) أو (أخرجوا مِن العراق ومِن بغداد لأنكم لستم عراقيين).. بالتأكيد الجواب هو كلا.. لذا فإن كل ما تحقق لأبناء قومياتكم وطوائفكم بعد مجيئكم الميمون هو أنكم كرّهتم بهم الناس وجرأتم عليهم هذا وذاك بدلاً من أن تحموهم تُعِزّوهم.. ولا أدري الى أين ستوصلهم سياساتكم ومن سيتجرأ عليهم يوم غد وما الذي يخبأه هذا الغد أصلاً من مصير مجهول لأبناء هذه الطوائف والأديان والإثنيات التي إبتليت بمن يدعون تمثيلها في العراق الجديد الذي يقال بأنه ديموقراطي فيدرالي تعددي دستوري وهو عن كل هذه المعاني مُحرّف.


مصطفى القرة داغي

[email protected]