عندما شاعت مقولة quot;ديكارتquot;: quot;أنا أفكر..إذن أنا موجودquot;، يبدو أن فهمها البعض على أنها الوسيلة والغاية، وأنه بالتفكير والتفكير وحده امتلك العالم والحقيقة. فلما كانت quot;الأناquot; ليست وحدها في هذا العالم، الزاخر بالأخر (المتنوع/المتعدد)، نال القهر والإحباط منه، فسقط ضحية الاكتئاب إلى حد أن تخلص من حياته بيده..
تلك الكلمات بمناسبة بدء العام الجديد، بينما طالعتنا الإحصاءات بأن عدد الأدباء/الشعراء المنتحرين خلال القرن الماضي بلغت مائة وخمسين مبدعا، منهم خمس عشرة مبدعا عربيا، فيما بلغ من أقدم على الانتحار خلال السنوات القليلة من القرن الجديد (سبع سنوات) بلغ خمسة عشر مبدعا، ولو استمر المعدل إلى نهاية القرن (الحادي والعشرين) سوف يعد أكثر انجازا في إهلاك المبدعين!
وماذا لو رصدنا هؤلاء quot;الغاضبونquot; بصرف النظر عن سبب رفضهم، مثل ذلك التركي الذي أشعل في جسده النار أمام إحدى السفارات التركية، وأمثاله ممن هم (من غير المبدعين) كما أبقر أحدهم بطنه في اليابان بسيف أجداده، وأحرق آخر نفسه مطالبا بالعدل والديمقراطية.
أما الكاتب الأسعد حظا فهو الكاتب الذي يعانى وهو واقف على قدميه.. مصابا بالاكتئاب!!
جميعهم وغيرهما فكروا وقرروا بمحض إرادتهم الانتحار، فقط لأنهم فكروا مليا، ثم قرروا قرارهم بالتخلص من حياتهم؟!
الطريف أنه لم تخبرنا كتب التراث العربي أن أقدم أحد المبدعين على الانتحار، لولا تلك الميتة الشهيرة لشاعر العربية الأول quot;المتنبيquot;، الذي مات من جراء قرار أشبه بالانتحار. فقد مل تجاهل الخليفة العباسي quot;سيف الدولةquot;، واتجه إلى مصر ليثنى على quot;كافور الاخشيدىquot; الخليفة الحاكم لمصر، فإذا بالرجل لا يفهم في الشعر، ولا في أسرار جماله، عاد وقرر الشاعر ترك مصر. وهو على طريق الترحال، قابله قاطع الطريق quot;الضبةquot; الذي أهان quot;المتنبيquot; وتفوه بما لا يليق بمقام شاعر في مثل قامته. لم يشأ أن يطاحنه وفضل المسالمة، فإذا بخادمه اللئيم ولجهله، يعاتب quot;المتنبيquot; وهو صاحب القصائد في السيف والمواجهة. فما كان من الشاعر أن عاد إلى غريمه وواجهه في معركة غير متكافئة، سواء في العمر أو في فنون المقاتلة، ويسقط الشاعر quot;المتنبيquot; قتيلا في مواجهة أشبه بالانتحار.. إلا أنه لم ينتحر!
ولا ينسى المطلع أن الشاعر العربي الكبير quot;أبوالعلاء المعرىquot; هو أو من تحدث عن quot;خذلانquot; الشاعر. وهو ما يعنى أن معاناة المبدعين قديمة، وقائمة في كل الأحوال، وعلى مر الزمان.. ومع ذلك لم ينتحر شاعر عربي قديم.

في عجالة نعرض لبعض من فضلوا الانتحار كمدا.. لعل أشهرهم، quot;هيمنجواىquot; الذي خرق رأسه برصاصة وانتحر، وكذا quot;فرجينا وولفquot; التي انتحرت وهى في أوج مجدها الأدبي.

يلاحظ المتابع أن كثيرين ممن تعاطوا الأدب والشعر وأدمنوا الكلمة، يصابون في صمت بتلك الحالة المرضية، وعلى درجات متفاوتة.
وتختلف درجة استقبال الكاتب لتلك الحالة: منهم من يدعى أنها من الأمور الطبيعية، ويجد في الحديث عن أعراضها، متعة التلذذ بالألم.. ومنهم من يرفض البوح بها ظنا منه أنه يتألم ويعانى من جراء ما يعي ويفهم، وهذا قدره مع فرط وعيه.. ومنهم من يذهب إلى الطبيب النفسي في صمت، ولا يخبر غيره، ولا حتى زوجته.. ومنهم من يعلم أنه يعانى، ولا يعلم أنه الاكتئاب الذي يجب عليه مواجهته بالذهاب إلى الطبيب النفسي، فيذهب إلى محاولة الانتحار، وقد ينجح ويرصد تلك اللحظات الأخيرة من مقتله أو موته، كما فعل الكاتب المصري quot;رجاء عليشquot;، فور الانتهاء من روايته quot;كلهم أعدائيquot;.. ثم هناك من يسعده الحظ أو القدر أو أن يلطف به الله، تفشل محاولة انتحاره، ويعود ربما أكثر ايجابية إلى الحياة بعد إنقاذه، كما حدث مع المبدع القاص quot;إدريس علىquot;.

ترى لماذا يعد الكتاب أكثر الفئات انتحارا؟
لا توجد إحصاءات متوافرة للإعلان عن جوانب الصورة بصفة عامة في العالم، إلا أننا نعلم أن أعلى نسبة انتحار في العالم، هي بين فئة الشباب في البلاد الاسكندينافية (السويد-الدينمارك-هولانده).. وهناك نسبة غير قليلة بين المنتحرين ومدمني الخمور وغيرها، في أوروبا وأمريكا من الفنانين عموما في شتى الفنون.
أما في مصر، فالمتابع يتأكد باتساع ظاهرة الإصابة بدرجة من درجات الاكتئاب عند كثيرين ممن يتعاطون الأدب والفكر.. ولم تقتصر الأعراض على بعض كبار السن ممن يقال أن المعاناة الحياتية وقهرها اليومي الطويل لعب دوره، بل هناك من شباب الأدباء يعانون من الظاهرة نفسها، ويشاركون في الظاهرة.. وهو ما يثير السؤال حتما عن الأسباب؟!
بداية.. فالكاتب الأديب أو الشاعر أو المفكر، يملكون ملكات خاصة هي في الأصل ضرورية، حتى تشكلوا هكذا داخل دائرة الفكر والإبداع، منها: الحساسية المفرطة، والنزعة إلى التأمل والتحليل، والرغبة في اقتحام الغامض والمغلق، ومحاولة استشراف المستقبل.. وغيرها. وكلها تجعل منه جهازا للاستقبال شديدة الحساسية والرصد.
ليأتي الواقع المعاش.. وهو ما يدخل ضمن جوانب حياته المعيشية، وتوفير ضرورات إقامة حياة أسرية مستقرة، ويدخل ضمن المشاركة بفاعليه ترضيه، وتكفي التعبير عن آرائه وأفكاره، ثم تأتى تلك المؤشرات والشواهد والأحداث التي تدور من حوله، سواء كانت في الشارع أو على شاشة التلفاز، وهى بالتحديد الأحداث الجارية من حوله محليا وعربيا وعالميا.
وأخيرا.. تكون النتائج التي هي مقال أو قصة أو قصيدة، وغيرها للتعبير كمحاولة للبحث عن حلول أو محاولة للمشاركة في الهم/ الهموم العامة.
وعلى قدر إحساسه بفاعلية ما يخطه (حسبما يعتقد من آراء ووسائل) تكون درجة النجاح أو الإحباط.

نشير إلى بعض من انتحروا من المبدعين العرب، أول حادثة رصدتها الوقائع، انتحار لمبدع عربي، كانت عام 1930، رصدها الكاتب quot;رجاء النقاشquot;. وهو الشاعر والروائي quot;احمد العاصيquot;، وقد نشر quot;ديوان العاصيquot; ثم رواية quot;غادة لبنانquot;. والراصد للأحداث العامة في مصر خلال تلك الفترة، يخلص إلى قدر المعاناة الاجتماعية العامة، وقهر الاحتلال الانجليزي وغيره، فلم يعرف عن الشاعر ضيقة مالية ما، بل هو الهم العام.
أما الشاعر quot;فخري أبوالسعودquot; فقد انتحر بعده بعشر سنوات، واعيا لفعلته، يرجوها ويكتب حولها قبل أن يقدم عليها، أن الأدباء ورجال الفنون عادة أرهف حسا، وأبعد خيالا ممن عاداهم، وما من أديب إلا تتجسم له مقابح الحياة... فتعفها نفسه، وينتقم عليها وعلى نفسه وعلى الأحياء جميعا.(مقالة نشرتها مجلة الدوحة عام 1981م حول الحديث عن الشاعر).
كما يذكر عن الشاعر المنتحر quot;صالح الشرنوبىquot;، أنه اعتاد ترديد بعض الأبيات التي كتبها، وحقق مغزاها فيما بعد، حيث قال:
quot;غدا يا خيالي تنتهي ضحكاتنا
وآمالنا تفنى وتفنى المشاعر
وتسلمنا أيدي الحياة إلى البلى
ويحكم فينا الموت قادرquot;
إلا أن انتحار quot;الشرنوبىquot; بدا أشد قسوة من غيره، حيث القي بنفسه تحت عجلات قطار مسرع!
وتتعدد الأسماء ممن ماتوا بما يشبه الانتحار، فما بالك بالشاعر quot;خليل حاويquot; يموت كمدا من مشهد الدبابات الإسرائيلية وهى تقتحم أحياء بيروت في الثمانينات من القرن الماضي.

ظاهرة الاكتئاب إذن، وعلى درجاتها، تبدو شديدة الوطأة إذا ألمت بكاتب شاب، كما تبدو غير منطقية ولا مبررة مع شيخ عجوز نهل من الزمن وأعطى، ولم يتحقق له ما يريد.
ربما يمكن إجمال أسباب الظاهرة في عدد من الأسباب: عدم توافق الحلم والأماني الشخصية مع معطيات الواقع ماديا وأدبيا للكاتب.. وهى غالبا ما تتصل بالكتاب الشباب وممن هم في منتصف العمر. أما الإحساس بالقهر المادي والأدبي أو الإحساس بالا جدوى في واقع عالمي تغلب عليه قيم القوة الطاغية، والعدوان، ومحاولات الهيمنة وقهر الآخر، مع تحلل مفاهيم احترام القيم العليا والثوابت، وضياع قيم العدل والحق.
لأن الكاتب يعيش أفكاره ويتمنى تحقيق أحلامه، بينما الواقع المعاش، قاهر على المستوى الفردي والجمعي، ولأنه أكثر حساسية عن غيره، ثم يشعر بعدم الجدوى نظرا للمحبطات المتتالية.. فلا نتيجة إلا quot;الاكتئابquot;، وعلى درجات متفاوتة، ولا يبقى سوى الوعي بها.. ربما يمكن تلافيها!!

السيد نجم
[email protected]