تابعت ردود الأفعال و كانت في غالبيتها تتسم بالتشنج على مقال الزميل الكاتب محمد عبد الجبار الشبوط في صحيفة الوطن الكويتية و المعنون ب ( مطلوب إعتذار عراقي ) و الذي أشار فيه إلى ضرورة تقديم الدولة العراقية لإعتذارها الرسمي لدولة الكويت عن جريمة الغزو العسكري التي قام بها نظام صدام حسين في العراق في الثاني من آب / اغسطس 1990، تلك الجريمة التي شكلت سابقة لا نظير لها في العلاقات العربية، و خرقا واسعا و رهيبا لمفهوم الأمن القومي، كما أنها كانت بوابة الجحيم و الفتنة الكبرى

ردا على محمد الشبوط: اعتذر فورا للعراقيين

المطلوب اعتذار عربي للعراقيين

الجديدة التي مزقت العالم العربي شر تمزيق و أدت في المحصلة النهائية لإضعاف العالم العربي و لتكسيح حقيقي لمصادر قوته و لإستنزاف إقتصادي رهيب لم يكن ضروريا و لا حتميا كما زرعت بذور الشقاق و الكراهية الحادة و المقيتة بين الشعوب العربية و رسخت حالة نفسية غير طبيعية من التوجس و القلق وفقدان الثقة بين شعوب و حكومات المنطقة، جريمة الغزو بكل تداعياتها لم تكن عملية هينة و لا سهلة إذ أنها خرقت ثوابت راسخة و أيقظت فتنا نائمة، و أحيت مطالبات كنا نتصورها قد ماتت و أنتهى عمرها الإفتراضي فإذا بها تعود بقوة للساحة، الموضوع ليس مجرد حالة مفاجئة من الإجتياح العسكري الغاضب في لحظات معينة بل أنه يمس في الصميم أمن ووجود الدول و الشعوب، إضافة لمتبنيات ذلك الغزو و خلفياته الفكرية و السلوكية و دلالاته المستقبلية، إجتياح وغزو دولة الكويت كان فعلا إجراميا خالصا و إجتهادا صداميا منفردا و لكنه في النهاية جاء ليتوائم تماما و يتفق مع تطلعات و أفكار و رؤى تؤمن بها جماعات عديدة في العراق و لا تزال تحلم بتلك الرؤية حتى الوقت الحاضر، و صدام حسين حين قرر أن ينفذ ميدانيا قرار إجتياح و غزو و ضم دولة الكويت و إلغاء هويتها الوطنية و إعتبارها المحافظة العراقية التاسعة عشر كان يعلم تماما بإن خطوته و صدمته الكهربائية تلك ستلاقي هوى و تعانق مزاج قطاعات عراقية و عربية عديدة من أولئك التيارات ( البسماركية ) العراقية و العربية المفلسة فكريا التي تعتقد إن القوة هي المعيار الأوحد في حل الصراعات و إدارتها و ترتيب الملفات و الأولويات الإقليمية، صدام حسين حينما دخل دولة الكويت منتهكا كل صيغ الإخوة و حتى القيم الإنسانية العامة لم يدخل لوحدة، كما أن جيوشه لم تكن جيوش عشيرته في العوجة وضواحيها، بل كان في خطوته تلك يمثل الدولة العراقية بأسرها، و كان الجيش العراقي برمته و بأسلحته المتعددة و صنوفه القتالية هو عدته الرئيسة لتنفيذ ذلك الغزو و لتقرير الأمر الواقع، صحيح أن الشعب العراقي قد فوجيء في توقيت الغزو و لكنه لم يفاجأ أبدا به كحالة طال إنتظارها و كانت متوقعة من النظام بين الفينة و الأخرى، فجميع الحكومات العراقية المتعاقبة كانت تعتبر الكويت حالة خاصة، و كانت تتعامل مع الملف الكويتي بعقلية متعالية محورها الأساس إن الكويت كانت و لا تزال جزءا من العراق و إن التقسيمات الإستعمارية و إتفاقيات سايكس / بيكو كانت سببا في زرع التقسيم، الجماعات القومية العراقية لم تخف أبدا إيمانها بعراقية الكويت و حتى المرحوم الجنرال نوري السعيد رئيس الوزراء العراقي الأسبق و الأشهر أضطر للإعتراف بحدود الكويت العامة كجزء من ترتيبات إعلان إستقلال مملكة العراق و إيداع وثائق الحدود العامة للدولة الجديدة في عصبة الأمم عام 1932 وهو رغم سياسته البراغماتية و المسؤولة و الحريصة على السلم و الأمن الإقليمي و التحالف مع الغرب كان ينظر للكويت نظرة خاصة ضمن مشروعه الوحدوي ( الهلال الخصيب ) ثم ( الإتحاد الهاشمي ) للإستفادة من الموارد النفطية الكويتية في دعم ميزانية ذلك الإتحاد! الذي لم ير النور بسبب إنقلاب 14 تموز العسكري عام 1958 الذي إعترفت الكويت به و تعاملت معه سلميا و رسميا و زار أمير الكويت الراحل الشيخ عبد الله السالم الصباح بغداد و ألتقى رئيس الوزراء العراقي اللواء عبد الكريم قاسم و كانت الأمور عادية حتى أعلن إستقلال الكويت و إلغاء إتفاق الحماية مع بريطانيا لعام 1899 في حزيران/ يونيو 1961 ليتغير المزاج الرسمي العراقي و ليشن اللواء قاسم حملته الشهيرة للمطالبة بضم الكويت للعراق و لتنشأ أوضاع توتر كبرى كان مبعثها وقتذاك الأزمة السياسية الداخلية في العراق وصراع القوى السياسية الشرس، و ظل نظام اللواء عبد الكريم قاسم رافضا الإعتراف بإستقلال الكويت و محشدا الرأي العام الداخلي نحو هدف إستعادة وضم الكويت دون أن يتحرك عسكريا و ينفذ تهديداته الإعلامية، حتى إنتهى نظامه بإنقلاب الثامن من فبراير/ شباط 1963 و الذي رسم خطوطا جديدة و مختلفة على رمال الكويت و العراق الساخنة، فقادة الإنقلاب الجديد كانوا منذ اللحظات الأولى لإنقلابهم في حالة خلاف سياسي و تطاحن شديد و لم يتفقوا أبدا على الكثير من الأولويات و منها الإعتراف بدولة الكويت حيث إعترف ماكان يسمى بالمجلس الوطني لقيادة الثورة في أكتوبر 1963 بإستقلال و سيادة دولة الكويت ثم تنصل البعثيون فيما بعد من ذلك الإعتراف بحجة أنهم كانوا في حالة شقاق داخلي مما أدى في النهاية لقيام الرئيس العراقي الأسبق عبد السلام محمد عارف بضربهم و طردهم من السلطة في نوفمبر 1963 ليبقى الخلاف العراقي / الكويتي مجمدا و لتبقى مسألة الخلاف على الحدود الدولية قضية مستمرة لم تحسم أبدا خلال حقب الستينيات و السبعينيات و حتى الثمانينيات!، وكانت عقدة الكويت حاضرة دائما و أبدا في العقلية السياسية لحكام العراق، كما كانت حالة عدم الإستقرار السياسي الداخلي في العراق ترسم ظلالها على طبيعة العلاقة المتوجسة و الحذرة بين الكويت و العراق حتى جاء الإنقلاب البعثي الثاني في السابع عشر من يوليو / تموز 1968 ليضيف للمشهد الإقليمي و لعلاقات البلدين مواقف غامضة و غير مفهومة أيضا هي مزيج من التوجس و الحذر و الرؤى السياسية و المستقبلية الغامضة، فذلك النظام العراقي الجديد الذي جاء وفق سيناريوهات دولية محاطة بالغموض كان يعاني أيضا كسابقيه من الصراعات الداخلية لذلك ركز جهوده على تصفية الساحة الداخلية وفق سياسات قمعية شديدة و مفرطة للغاية في إستعمال القمع مع تجميد الخلافات الخارجية و التحرك بريبة فيما يخص العلاقة مع الكويت و ليس سرا أن البعثيين في مختلف مراحل نظامهم كانوا ينظرون للكويت نظرة عدائية محورها الطمع و إعتبارها جزءا لا يتجزأ من العراق!! و يغلفون ذلك بالشعارات الوحدوية العامة حول الأمة العربية الواحدة و رسالتها الخالدة، وفعلا كان الإختبار العملي الأول في فبراير 1973 عندما حدثت قضية الإشتباك الحدودي الخطير في مخفر ( الصامتة ) على الحدود الشمالية للكويت و الجنوبية للعراق ووقوع عدد من الضحايا الكويتيين، وقتها تحركت الجامعة العربية لإحتواء الموقف و قامت الدبلوماسية المصرية وقتذاك بدور في تهدئة الموقف عن طريق الوساطات و الزيارات المكوكية لتهدئة الخواطر، إلا أن تلك الحادثة الدموية أعادت للإذهان طبيعة نوايا و توجهات النظام البعثي في العراق الذي تعمد ترك ملف الحدود مع الكويت معلقا، و حينما سأل صدام حسين ذات مرة عن سبب عدم تخطيط الحدود العراقية مع الكويت ؟ أردف قائلا و موجها كلامه للكويتيين : ( لا حدود بين الأشقاء.. خذوا البصرة شريطة أن تحمونها من إيران !!! ) و هذا المنطق مراوغ و يتجاوز الدبلوماسية ليصل لحدود الصفاقة بطبيعة الحال ؟ و ظل الموقف متأرجحا بين الشد و الجذب حتى حدث التغيير و الإنقلاب البعثي الداخلي في العراق بعد إزاحة الرئيس الأسبق أحمد حسن البكر و هيمنة صدام حسين و مجموعته على السلطة في العراق في تموز / يوليو 1979 لتفتح صفحة جديدة في علاقات البلدين ظاهرها المودة و باطنها المشاريع الخفية التي كانت مرتبطة بمشروع الحرب العراقية / الإيرانية و تطلع صدام حسين لأن تكون جائزته و تفاحته الرئيسية هي الهيمنة على الكويت و من دون الدخول بتفاصيل و ذكريات تلك الأيام إلا أن الكويت و ضمن إطار المتغيرات الإقليمية و الدولية لم تكن تملك أبدا إلا موقف تأييد العراق و دعمه ليس حبا بنظامه أبدا بل لأسباب أخرى متعلقة بالأمن الإقليمي و هي مسألة فوق العواطف و المشاعر الذاتية، بدوره إستغل نظام صدام الفرصة السانحة لبناء قواعده التبشيرية و الأمنية في الكويت مستغلا المشاعر القومية أبشع إستغلال و مؤسسا للمرحلة القادمة التي ستعقب نهاية الحرب مع إيران و التي سيظهر خلالها النظام العراقي أنيابه الدموية مستغنيا بالكامل عن ما أسماه ( ميثاق العمل القومي ) الذي أعلنه في فبراير 1980 و الذي ينص في مادته الأولى على عدم جواز اللجوء للقوة المسلحة في حل الخلافات بين الدول العربية!!!، فكان صاحب الميثاق هو المنتهك الأول و الوحيد له!! في واحدة من أكبر ألعاب السيرك السياسي في السياسة الدولية المعاصرة، و بقية أحداث المسلسل معروفة و لا حاجة لتكرارها و التي أدت في النهاية لإحتلال الكويت و ضمها للعراق و قيام حرب كونية لتحريرها في واحدة من أكبر مآسي العالم المعاصر، إذن الكويت كولة و كيان و شعب كانت ضحية لمخططات إقليمية و دولية مشتركة، و كان النظام العراقي مخلب القط و كان الضحايا يتساقطون بالآلاف من الجانب العراقي تحديدا و قد فعلت سنوات الحصار القاسية فعلها في تهديم العناصر الحية للمجتمع العراقي و بروز الجماعات الطفيلية و المتخلفة، و كان الجيش و الشعب في العراق هو وقود تلك الصراعات و لكن لا يستطيع أحد أن ينكر أن النظام العراقي ما كان له أن يقوم بكل تلك الجرائم لو لم تكن هنالك تيارات شعبية تؤيده و تدعم طروحاته و هي تيارات للأسف لم تزل موجودة و لكنها مختفية تحت طيات العمائم و اللحى و البدلات الأنيقة، و حتى الأحزاب الدينية الحاكمة في العراق اليوم لها وجهات نظرها الخاصة في موضوع العلاقات مع الكويت و بعض تلك ألأحزاب كالدعوة مثلا شاركت في نشاطات إرهابية مباشرة سواءا ضد الكويت في أعوام 1983 و 1985 أو ضد القوات الأمريكية في لبنان في عام 1983!! و تقديم الإعتذارات المتبادلة ليس سبة و لا عيب و لا إنتقاص من السيادة أو الكرامة فمن يعتذر هو القوي و المتمكن و الواثق !! أما عقلية عمرو بن كلثوم الجاهلية ( و نجهل فوق الجاهلينا ) فمكانها المتاحف و كتب التاريخ و ليس الواقع الحي المعقد و المليء بكل أشكال الألغام و عوامل الإنفجار، إعتذار رسمي عراقي لن يضير أحد و سيهدأ النفوس الثائرة، و سيعيد صياغة التاريخ الإقليمي من جديد وهو أمر فعلته شعوب و دول عريقة بل مغرقة في العراقة و الحضارة مثل الإيطاليين و الألمان و اليابانيين و غيرهم، كما أن الكويت قد قدمت إعتذارها الضمني و الحقيقي بتوفير الركن الأساس لعملية إسقاط نظام صدام حسين و إنفتاحها على القوى العراقية التي حاولت قتل أميرها الراحل الشيخ جابر الأحمد، و بصراحة مطلقة فلولا الكويت و الكويت تحديدا ما رأينا ألأحزاب العراقية الحالية وهي تتحكم بمفاصل السلطة في العراق !! الإعتذار ليس مشكلة بل أن المشكلة كل المشكلة تكمن في العقليات الشمولية و في النوايا العدوانية المبيتة لكثير من ألأطراف المرتبطة بأجندات خاصة لا علاقة لها بالعراق بل بمراجعها خلف الحدود..!.. و تلك هي المعضلة.. أما الإعتذار فهو من سمات الأقوياء... و في النهاية فإن شعوبنا العربية هي من تجرعت المأساة و لا تزال... أما العنتريات و التفاخر الأهوج فتلك مسائل مرضية وقانا الله و إياكم شرورها....

داود البصري

[email protected]