في يوم انتخاب أوباما، كانت أعداد كبيرة من الشباب في أميركا يضعون صورته على ألبستهم وسياراتهم، معلنين بذلك أنه لم يكسب أصواتهم فقط، بل كسب قلوبهم وإيمانهم به كقائد مختلف. هذا الحماس من الصغار وغيرهم من الكبار يعود في المقام الأول إلى كاريزما أوباما وهالته الساحرة التي تتجلي في خطاباته وكلماته، والتي يعيد البعض لها الفضل في الاكتساح الذي حققه في جميع مراحل انتخابه. وهذا النوع من الانسحار والافتتان المندفع لدى الجماهير أعاد لنا صورتها القديمة المتجددة، حيث ذكر غوستاف لوبون في كتابه (سيكولوجية الجماهير) كيف أن الجماهير كيان غير عاقل، لا يجنح إلى من يقنعه، بل إلى من يغويه. وهناك أيضاً صورة أخرى يجلبها فوز أوباما إلى الأذهان، وهي صورة اثنين من قادة السود، يعتبران من أعظم خطباء أميركا على مر التاريخ، وهما مالكوم اكس ومارتن لوثر كنج.

لقد عاش مالكوم ومارتن لوثر كنج في نفس الفترة، وكان كل واحد منهما ذلك الخطيب الملهم الذي لا تنقصه لا الشجاعة، ولا الحجة والفصاحة. لقد كانا متقاربين في السن، يراوحان على نفس المدن، ويحفّهما أتباع كثر، ومخاطر أكثر، فقد كانت أميركا هي أميركا، والاضطهاد هو الاضطهاد. وقد اغتيلا في النهاية في فترة متقاربة، مالكوم في عام 1965 ولوثر في عام 1968. وفي تلك الفترة كانت شخصية مالكوم أكثر إثارة، فحرارتها واندفاعها كانتا خير ترجمان لغضب السود وحنقهم، وإن كان لوثر قد قرأ خطبة (الحلم)، خطبة القرن في أميركا من ورقة، وبكلمات هادئة متقطعة، فإن مالكوم لم يقرأ خطبه من ورقة قط، ولم تكن كلماته أبداً متقطعة بل كانت كالرصاص الذي لا يهادن. وفي عالمنا اليوم، الجميع يرى كيف أن نجاح أوباما مستخلص من ميراث لوثر وليس مالكوم اكس. وهنا يبرز أمامنا سؤال محدب كجبل: لماذا امتدت وأخصبت آثار لوثر؟ بينما أنبتت واندثرت آثار مالكوم، ولم يعد لها إلا الوجود الرمزي في الكتب، وأدبيات اليسار والراديكاليين وقمصان الشباب الرافض جنباً إلى جنب مع صور جيفارا !؟

الخطابة هي من رسمت النقاط المفصلية للسود في نضالهم. وفي أحد البرامج التلفزيونية تحدث الممثل دينزل واشنطن والمذيعة أوبرا وينفري عن الأهمية التي مثلها لهم فيلم ((The Great Debaters والذي صدر في العام الماضي، حيث قام الأول ببطولته، والثانية بإنتاجه. وقصة هذا الفلم باختصار كانت تحكي عن طلبة جامعة من صغار السود في ثلاثينات القرن الماضي، يخوضون تصفيات تحدي خطابي وحلقات نقاش مع طلبة من البيض من جامعات أخرى. وهذه القصة وإن كانت متخيلة، إلا أنها تعكس قوة العلاقة والارتباط للسود مع اللغة والخطابة، حيث كانت تمثل لهم أداة صراع ووجود، فلهجتهم الخاصة كانت تعطي ملمحاً متميزاً لشخصيتهم، ومحاجّتهم العقلية تعكس ثقتهم في أنفسهم وذكاءهم في مقابل الأبيض المغاير. لقد كانت الخطابة رفيقة درب ودابة أمينة للعرق الأسود الأميركي في نضاله، فخطبة لنكولن عن إنسانية الإنسان الأسود قامت بتحريرهم، وخطبة لوثر عن المساواة والعدالة الاجتماعية سددت حقوقهم المدنية، وخطبة أوباما عن التغيير أدخلتهم البيت الأبيض.

وذكر كيفن أوفيندن في كتابه (مالكوم إكس والقومية السوداء) بضعة أسباب جعلت المجتمع الأمريكي يحتضن دعوة مارتن لوثر ويرفض دعوة مالكوم وجماعة (أمة الإسلام)، ومن ذلك التباين المهم بين طريق العنف واللاعنف في داخل المجتمع، وأن المجتمع لم يكن مستعداً لقبول دعوة تحمل شعار دين آخر. أمّا الاختلاف الرئيس بين الاثنين فكان في مسألة اختيار الطريق، ففيها كان كل واحد منهما ينسج على نول مختلف. وإذا كانا متماثلين في الإخلاص لقومهم، وإثبات ذواتهم، وفي القدرة على إيصال الكلام ببراعة، فإنهما كانا متغايرين في فحوى ومحتوى هذا الكلام. لقد كان الفرق بينهما هو الفرق بين الوصل والقطيعة، العنف واللاعنف، بين من يعرف ما يريد ومن يعرف ما لا يريد، من يشرك الآخر في حساباته ومن لا يحصي سوى نفسه، وبين من يكسب الأعداء ومن يخسر الأصدقاء. لقد كان هدف لوثر واضحاً ومحدداً، أن يدرك الجنس الأبيض أن الكيان الأسود هو قطعة أصيلة في موزاييك هذا المجتمع، وأن يتساوى الجميع في حقوقهم تحت ظل مجتمع واحد. أمّا مالكوم فكان هدفه وهدف أليجا محمد من قبله هو القطيعة الكاملة مع البيض، وانتظار أحد أمرين، إما قارعة إلهية تهلك البيض جميعاً، أو العودة بالسود إلى أفريقيا، أرضهم الأم. ولا تخفى مأساوية هذا الطريق على افتراض تحققه. و من قبلوا بهذا المنهج لا يزالون في عزلة وانقطاع لا يخرجهم منها إلا تغيير منطقهم نفسه.

وفي سيرته التي كتبها له الصحفي (اليكس هاليي) ذكر مالكوم كيف أن فتاة أميركية بيضاء طلبت منه أن تنضم إليهم، فردّها مالكوم وأخبرها أنهم لا يقبلون البيض في جماعتهم. أمّا لوثر فقد كان يقول في خطبة الحلم مخاطباً أتباعه: quot; لا يجب أن يدفعنا عطشنا للحرية لأن نشرب من كأس الكراهية. ولا يجب أن نسمح لاحتجاجنا الخلاّق بأن ينسحب إلى عنف جسدي، ونضالنا الجديد والرائع لا يجب أن يقودنا إلى الارتياب بالرجل الأبيض. إن كثير منهم أخوة لنا، مثل الذين جاءوا معنا اليوم هنا، جاءوا مدركين أن قدرهم مقيد بقدرنا، وأن حريتهم لا تنفك عن حريتناquot;.

لقد ذكر بعض الباحثين أن شدّة تمايز اليهود وانفرادهم كان هو السبب وراء اضطهاد شعوب أوروبا لهم. ومثل هذا الأمر حدث مع الشعوب السلافية في أوروبا، حيث تمركزت حول استعلاء عرقها السلافي، وسيادتها المفترضة على الآخرين، فكان لها موعد طويل مع الحروب والهزائم والخضوع، فالمصائب تتشمّم أهلها.

لقد هاجم مالكوم مارتن لوثر مرارا، واتهمه مع أتباعه بالجبن والمهادنة والركون إلى الشيطان الأبيض. وكان لوثر دائماً في موقع المدافع، كان يحاول شرح وجهة نظره وإيصال خطته النضالية من غير زوائد ولبوس مضللة، أو سجالية فارغة. وفي لقاء تلفزيوني قال عنه مالكوم : quot; إن منهج الدكتور كنج منهج غير واقعي، إنه منهج مشكوك فيه، وبالتأكيد لن يصل إلى الهدف الصحيحquot;. واليوم كلنا نعرف من الذي ساد منهجه وأثمر، حيث تتضح مسألة أن ما هو أهم مما تتعرض له، يكمن في ردة فعلك تجاهه. هكذا تباينت الدروب مبكراً، فاختنق منطق الإقصاء والكراهية الذي تبناه مالكوم وأتباعه في دلتا الميسيسيبي، بينما بقي منطق لوثر عائماً يتنفس حتى استطاع تعميم حضن ديترويت الدافئ على باقي أرجاء أميركا.

لقد قام البيض باغتيال لوثر، وفي هذا دلالة على انتفاض الجسم الأبيض ممانعاً لعملية الاختراق الجدية من قبل هذا الدخيل الملون. أمّا مالكوم فقد قتل من قبل أتباعه السابقين من السود، والذين قام بصناعتهم، فاليد العنصرية للبيض لم تكن تحتاج إلى قتله، فهو بالنسبة لهم كان أفضل وسيلة تستطيع عزل السود وإبعادهم عنهم، بجانب أن ديماغوجيته وتصريحاته النارية التي كانت تطير بها عناوين صحف الستينات اعتبرت لديهم أفضل إثبات على وحشية السود وعدوانيتهم. وهذا درس مفيد يخبرنا أن أكثر عربات القطار ضجيجاً ليست هي المحملة بالبضاعة، وأن من يمهدون طريق المستقبل ويكشفونه ليسوا هم من يمارس الصراخ، ولا من يستطير بهموم الناس، وينجح في غوايتهم، واستثمار خوفهم.

بقي نقطة أخيرة، وهي أن مالكوم الذي تحدثت عنه وعن منهجه في هذا المقال، هو مالكوم ذلك الناشط في جماعة أمّة الإسلام، والذي كان له أثر بالغ على الحركة الاجتماعية في زمانه. ولا أقصد مالكوم في آخر مراحل حياته، فمالكوم الأخير قد اختلف كثيراً، بعد أن اكتحلت عيناه باثمد مكة، وتجلت له حين زارها حقيقة أن الناس سواسية، بعد أن شاهد مظهر الحج المهيب. فتاب بعدها من تطرفه الأسود، وقرر بعد عودته إلى أميركا أن يدعم ويتوافق مع مارتن لوثر في دعواه ونضاله السلمي. وليس بمستغرب على مالكوم أن يفعل ما فعل، فقد قيل عنه أنه quot;الرجل الذي يفعل أي شيء من أجل الحقيقةquot;. هكذا في آخر مراحل حياته، قام مالكوم بالارتداد على نفسه ومنهجه في حركة تصحيحية، وضحّى بكل تلك الأمور التي جلبت له الشهرة والمكانة والأتباع في سبيل ما يؤمن به. وقليل من يفعل.

عبدالعزيز الحيص

كاتب سعودي

[email protected]