حمل الإسبوع المنصرم معه ذكرى كارثتين حاقتا بالشعب الكردي. ذكرى الحريق الهائل الذي اشتعل في سينما مدينة عامودة الكردية( 13/11/1960) وأودى بحياة أكثر من 280 طفلاً من ابناء المدينة الصغيرة. اي محى جيل كردي كامل. والمناسبة الثانية ذكرى مجزرة ديرسم( 1938) في كردستان الشمالية، حينما قصفت الطائرات التركية الأهالي هناك لقمع انتفاضة الكرد العلويين ضد الدولة التركية الحديثة. وهذا القصف ادى الى مقتل الآلاف من المدنيين ومحو جيل كردي كامل، ايضاً.

التاريخ الكردي يحمل الكثير من المآسي. قلما تجد مناسبة كردية تفرح ويمكنك الإحتفال بها. الموجود هو تسجيل لذكريات المجازر والكوارث وحملات القمع والتقتيل بالجملة.

العثمانيون، ومن ثم الأتراك القوميون الآن، حاولوا وبكل قوتهم القضاء على الشعب الكردي وسحق كل حركة أو محاولة يقوم بها للتخلص من نير الظلم وسوءة الإحتلال. جيش الدولة التركية الحديثة لم يدخر اي وسيلة قتل وتدمير إلا واستخدمها في مواجهة العصيان والثورات الكردية. الآن ثمة حديث آخر يطلقه رجالات الدولة التركية، وهو quot; فتح كردستانquot; من جديد. حزب العدالة والتنمية الحاكم، يريد، بالإبادة البيضاء هذه المرة، فتح بلاد الكرد بطريقة أخرى لاتكلف قطرة دم واحدة. يريد محو هوية الكرد ومسخ وجودهم بطرق شتى مبتكرة. الهدف المنشود هو السيطرة على الإدارات المحلية في الولايات الكردستانية الكبرى كدياربكر، ديرسم، وان وهكاري...الخ.

من يريد أن يقاوم هذه السياسة يٌجابه بالحديد والنار. يٌقتل ويٌسحل في الشارع بكل وحشية. الحكومة التركية( بقيادة حزب العدالة والتنمية) أعطت أوامرها باطلاق الرصاص على كل شيء يلهج برفض سياستها في كردستان. اطلاق الرصاص على الكبار وكسر ايدي وارجل الصغار. هذه هي وصية رجب طيب أردوغان لأجهزة الشرطة والإستخبارات التركية العاملة في كردستان...

الدولة التركية الحالية تنكر هوية الكرد. الأتراك يعتبرون وجود الكردي والحديث عن مظاهر وحيثيات هذا الوجود إهانة لهم. الدولة تشبه القراد هنا، لاتستطيع العيش إلا على الدماء. ثمة الآن إتفاق جديد بين الحكومة والجيش. الإتفاق يقضي بلبس الحكومة قفازات من حرير للإجهاز على الأكراد ترغيباً وبشكل علمي مدروس، يٌستخدم فيه الدين بأبشع طريقة. والجيش من جهته يتكلف بتوسيع مدار حربه وشن العمليات العسكرية داخل وخارج البلاد لضرب حركة التحرر الكردستانية ورجالاتها.

الحكومة التركية في الآونة الأخيرة بدأت تكشف القناع عن وجهها وتتحدث جهاراً عن تسلمها الملف الكردي للجيش. السبب هو إفشال حركة التحرر الكردستانية لكل محاولاتها المخادعة وحديثها عن quot;الإخوة الإسلاميةquot; وquot;الحل الديمقراطيquot;. وهي تعرف ان امرها إنكشف، لذلك عمدت الى اماطة القناع عن وجهها وتحدثت صراحة عن quot;ضرورة توسيع القوات المسلحة للحرب ضد الإرهابيين في البلادquot;...

وفي غمرة سياسة المواجهة المكشوفة وquot;كسر العظمquot; بين حزب أردوغان والكرد في كردستان الشمالية وتركيا، يأتي السيد سكرتير الإتحاد الوطني الكردستاني ورئيس جمهورية العراق جلال الطالباني ويطالب الكرد في تركيا بان يضعوا ثقتهم في أردوغان وحزبه وأن يعيدوا إنتخابه للمرة الثالثة!. ماذا يعني هذا الكلام؟. ما الهدف منه؟. اي معنى لكلام الطالباني هذا وأردوغان يتحدث صراحة عن quot;تهجير الكرد لخارج البلاد مالم يقبلوا بالهوية التركيةquot;؟. أولم يسمع السيد الطالباني بهذا الكلام؟. ثم ماذا كان سيقول الطالباني لو أن زعيماً كردياً من كردستان الشمالية جاء قبل عقد من الآن، وقال بأن صدام حسين رجل جيد وعلى أكراد العراق ان يثقوا به وأن لايتمردوا في وجهه وهو يذبحهم؟.

الحكومة التركية والجيش اتفقتا على وضع سياسة مشتركة لضرب الكرد والإستحواذ على كل البلديات التي يسيطرون عليها في الإنتخابات القادمة( 29 آذار 2009)، وهما ومن أجل ذلك، سيطالبون الحكومة في كردستان الجنوبية( كردستان العراق) بمساعدتهما لإنجاز هذه المهمة غير المقدسة. بمعنى إستخدام حكومة اقليم كردستان الجنوبية في ضرب واضعاف حركة تحرر الشعب الكردي في كردستان الشمالية.

الولايات المتحدة الأميركية كانت تركز دائماً على ضرورة التنسيق بين تركيا والعراق وquot;القوى الكرديةquot; في كردستان الجنوبية لمحاربة حزب العمال الكردستاني. ويبدو أن تركيا قد اقتنعت الان بان الإتصال المباشر مع أربيل سيكون أمراً لزاماً لكي تنجح في ضرب العمال الكردستاني. وهو الأمر الذي لم يكن في السابق، لأن تركيا رفضت بشكل مطلق الإتصال مع الزعماء السياسيين الكرد في كردستان العراق، وكانت دائماً تصفهم بquot; رؤوساء عشائر شمال العراقquot;. الآن أنقرة ترسل هيئة رفيعة المستوى لتلتقي برئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني في أربيل.

ثمة أدلة على بعض المرونة من الجانب الكردي الجنوبي: حصار على قرى منطقة (قنديل) ومنع القرويين من نقل المواد التموينية واللوجستية إلى هناك. رفض دخول المقربين من حزب العمال الكردستاني إلى الإقليم وحجزهم في مطار أربيل والطلب منهم مغادرة اراضي الإقليم على الفور. غض حكومة الإقليم الطرف عن تغلغل عناصر الإستخبارات التركية( الميت) وفرق الإغتيالات في المنطقة. هذا غير القوات التركية المتمركزة في منطقتي ( بامرني) و( آميدية) تحت سمع وبصر الحكومتين في بغداد وأربيل. ثمة معلومات تؤكد حدوث اتصالات ومحادثات جديّة بين كل من الحزب الديمقراطي الكردستاني والإتحاد الوطني الكردستاني من جهة والدولة التركية من جهة اخرى برعاية أميركيةـ وذلك للإتفاق حول الصيغ المطلوبة لمحاربة حزب العمال الكردستاني والتضييق عليه. سيتم، كما رشحت هذه المعلومات، وفي غضون 6 اشهر، دعوة حزب العمال الكردستاني الى القاء السلاح بشكل نهائي أو مغادرة أراضي الإقليم الكردي. وفي حال رفض الكردستاني ذلك يتم تشكيل جبهة اميركية ـ عراقية ـ كردية جنوبية ضده وتطويقه وفرض حصار مشدد عليه بغية دفعه الى الإستسلام. وللتمهيد لتلك المرحلة سيتم شن حملة إعلامية كبيرة ضد العمال الكردستاني تتمحور حول quot; الأضرار التي تلحقها عمليات الكردستاني العسكرية بالقضية الكرديةquot;. وقد ينعقد مؤتمر اقليمي تشارك فيه بعض التنظيمات الكردية من تركيا وايران وسوريا والعراق لشرعنّة اي اتفاق يظهر ضد الكردستاني. وبموازاة ذلك قد يٌسمح لبعض الوحدات التركية الخاصة بالتمركز الى جانب قوات (البيشمركة الكردية) بالقرب من التلال المشرفة على مناطق ( قنديل) وثمة احتمال ان تٌشن بعض العمليات الخاصة ضد النخب القيادية في حزب العمال الكردستاني.

ما المقابل الذي تنتظره حكومة اقليم كردستان من التعاون العسكري هذا مع تركيا؟.

سوف تعترف تركيا بحكومة الاقليم. تفتح ممثلية في أربيل. وقد يتم دعوة مسعود البارزاني الى أنقرة بوصفه رئيساً لإقليم كردستان العراق.

موقف حكومة اقليم كردستان سيكون محرجاً جداً امام الأمة الكردية. ليس من السهل التعاون مع تركيا ضد حزب جماهيري عملاق كحزب العمال الكردستاني. لذلك من المرجح ان يتم كل شيء بشكل سري ودون شوشرة. سيتم التركيز على الجانب الدبلوماسي والزيارات واللقاءات السرية. وهدف تركيا الكبير هو إحداث اقتتال كردي ـ كردي، يؤدي إلى اراقة اكبر كمية من الدماء وخلق شرخ كبير، واضعاف كل الجهات الكردستانية.

الحق بان هناك ضغطاً كبيراً تمارسه أنقرة على أربيل. لكن مع ذلك، فإن المصلحة الإستراتيجية الكردية تقول برفض هذا الضغط وعدم الإنصياع للمطاليب التركية الرامية لإحداث مواجهة كردية ـ كردية. يجب كذلك، رفض كل الإغراءات المالية والإقتصادية التي تعرضها تركيا على بعض الساسة في الإقليم. يجب تدارك حقيقة ان حزب العمال الكردستاني يمثل حماية كبيرة ودرعاً صلباً لمكتسبات الكرد في اقليمهم الجنوبي امام مطامع الدولة التركية التي تتحدث دائماً عن كركوك ومنع الحاقها بالإقليم.

هناك ادارة جديدة في واشنطن تستعد لتسلم السلطة بداية عام 2009. والولايات المتحدة الأميركية، ستظل على الأرجح، على ثوابتها فيما يخض الشعب الكردي: ربط كل القوى الكردية بها لإستخدامها بما يتوافق والمصالح الأميركية في المنطقة. وأميركا وسبق لها ان اعلنت حزب العمال الكردستاني عدواً مشتركاً لها ولتركيا. هي اذا لاتريد الان ظهور حل سلمي للقضية الكردية. تريد حرباً طويلة الأمد تستنزف الكل وتجعلهم في حاجة لها.

حزب المجتمع الديمقراطي( الحزب الكردي العامل في كردستان الشمالية وتركيا) هو اقوى الآن من اي مرحلة مضت. وقد يفجر مفاجأة في انتخابات آذار 2009 ويضاعف عدد البلديات التي يسيطر عليها. ربما تفكر أميركا عندئذ بشكل آخر. في النهاية قوة الكرد هي التي تحدد مصيرهم.

ريشاد سورغول
[email protected]

* إعلامي ومعلق سياسي كردي