الباطنية، وببساطة شديدة مركزة ومختزلة، وبعيداً عن طلسمة وفذلكة وquot;ألغزةquot; المفاهيم، هي كل ما يضمره ويبطنه، وعكس ما يظهره الإنسان من أفكار ومشاعر ومعتقدات خوفاً من ردع أو عقاب، أو خجلاً من إعلان. ولقبت بعض الفرق الإسلامية بالباطنية لتقديمها رؤية وتفسير مختلف عن ظاهر التفسير لمختلف القضايا والروايات والظواهر الدينية والدنيوية تختلف عن التفسير التقليدي العام، وبوجه وطابع فلسفي أحياناً بعيد عن القطعية والحدية الفقهية. هذه الباطنية أصبحت، وفي ظل الثقافة التوتاليتارية الشمولية الأحادية الإقصائية، سبة وشتيمة في الوعي الجمعي العام وارتبطت بالوعي العام بالسلبية. فمن لا يفكر، عادة، مثل مجاميع القطيع فهو، بكل بساطة، جاهلي وخارج عن الجماعة لا تقبله القيم البدوية والأبوية. وحين لقي أبا ذر الغفاري، وابن أبي العوجاء، والحلاج، وابن المقفع، والسهروردي، والجعد بن الدرهم، وغيلان الدمشقي، وابن عربي مصائرهم السوداء كانت تتم بذر بذور الفرق الباطنية والضالة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. وعرف، أو نسب إلى الباطنية الكثير من الاتجاهات الفكرية والفلسفية، ولا يمكن نعتها بالباطنية، كالقرامطة، والدروز والنصيرية، والإسماعيلية، والبابكية، والبهائية، والقادانية، والخرمية، والبهرة، والتعليمية، والمحمرة، والقادانية الأحمدية، والفرخانية..إلخ.

بدأت الباطنية كآراء منفصلة ومستقلة عن التفكير الجمعي العام، وكاتجاهات فكرية وتحولت إلى السرية أو الباطنية بالتعبير الديني بفعل ما لاقته من قمع وتنكيل وإقصاء. فالثقافة البدوية ثقافة أحادية أبوية مستبدة لا تقبل منافساً لها. وتكاد تكون quot;الباطنيةquot; سمة رئيسية ومميزة للثقافة العربية والإسلامية التي يحتفون بها في كل عام في عاصمة من عواصم القهر التاريخي المتوسطي الذي يطلق عليه العروبيون غدراً وتجاوزاً لحقائق التاريخ والجغرافية بالوطن العربي، تلك العواصم ارتبط تاريخها الطويل ووجودها بالقمع والمذابح والمجازر والاستبداد وقدمت أسوأ وأحط نماذج التسلط البشري، ولم تنج مدينة من مدنها وحواضرها الكبرى، من مذبحة كبرى بناء على تباين فكري وتنافس سياسي. والأصوب، واستذكاراً لهذه الثقافة، أن يعلن الحداد العام في كل عام في مدن الجهل وتقام سرادق الأسى والعزاء ويلبس الجميع لون السواد ويلطمون ويندبون تماشياً مع حقيقة هذه الثقافة نظراً لما لها من تداعيات كارثية ومدمرة على ما يسمى بالعقل العربي المغفور لرحمته تعالى وكانت وفاته السبب الرئيس في نشوء ما يسمى بالباطنية وفرق المروق والضلال. وقد نشأ على هامش الباطنية، وبفعل آليات القمع والإقصاء، مبدأ آخر مواز للباطنية، ألا وهو مبدأ التقية.

وقد لجأت هذه الثقافة ( التي يحتفون بها في كل عام)، إلى آليات عدة لإنجاز هذه المهمة العظيمة في تعطيل العقل، عبر إصدار سلسلة من الزواجر والنواهي ومنع وتحريم الفلسفة والسؤال، والتهديد بالسيف والويل والثبور، واستحضار الأجوبة الجاهزة الساذجة والمبسطة لأعقد الإشكاليات والألغاز الكبرى التي لا تزال تشغل عقل وبال الإنسان حتى اليوم ولم يجد لها حلاً. وشهدت كل تلك الأصوات والعقول والحركات الفكرية الجادة والعقلانية التي حاولت أن تتخطى حدود سذاجات تلك الثقافة وأساطيرها المبهمة نهايات مأساوية وعقوبات زجرية رادعة. ومن هنا انبثق فجر الباطنية من صميم هذه الثقافة الأحادية المغلقة، لأنها أغلقت باب الاجتهاد، وعجزت عن تقديم حلول وتفسيرات لأسئلة الفلسفية الكبرى التي تتشكل مع كل حقبة وتجربة من تجارب الإنسان، وفتح لذلك باب التفكير quot;الباطنيquot; ليعمل بعيداً عن أعين وسطوة العقل الذي استكان وقبل بالسرد والحل الأسطوري المجرد والممل لتفسير كل ما يعتيريه من مسائل وإشكاليات.

لقد تميز العقل البشري عبر التاريخ بإنتاج الأفكار وتجديدها وإصلاحها ودحض بعض الآخر وعدم الركون إلى فكر ومفاهيم وصيغ نهائية نهائية، وهذه هي ربما أكثر معضلات ومآزق الجنس البشري، الذي لا يهدأ ولا يكن عقله عن التفكير. وما كان مقبولاً، وصالحاً في فترة ما، قد يصبح عالة وعائقاً في مرحلة كالفكر القومي اليوم، الذي يحاول البعض، عبثاً، تجديده وquot;شلبنتهquot; ونزع السمات العنصرية الفاقعة عنه والذي لم يعد مقبولاً لا quot;على البطن ولا على الظهرquot;. والمصيبة فيمن يريد أن يضع أغلالاً لتلك الآلية الإنسانية الإبداعية الخلاقة التي لا تستسلم ولا تقف عن مرحلة ولا تعترف بحد. وما نعتقده اليوم ذروة إنتاج وإبداع العقل البشري، قد يصبح بالياً وتالفاً وربما سخيفاً في زمن قادم أكيد. فكم من العقائد والمعتقدات والنظريات الفلسفية هوت وسقطت وحل محلها تفكير جديد لا يلبث أن يتعرض هو الآخر لسهام النقد والتجريح؟

وما كان للباطنية أن تتأسس وتتجذر في هذه المجتمعات لولا الإرهاب والثقافة الأحادية التي ترفض أي حوار أو رؤية غير رؤيتها وربط كل حراك ونشاط فكري ورده إلى المقدس الديني النهائي والمطلق الذي لا يقبل التأويل والتعديل. فالمتهم والمدان هنا، ليس الباطنيون أنفسهم، بل المنظومة الفكرية والآلية القضائية التي أدت لظهور الفرق والحركات الباطنية، وتلك التي دفعت الناس للتفكير بعيداً عن روادع الثقافة التوتاليتارية القاتلة. ولو كانت الثقافة البدوية متسامحة ومرنة لما كان هناك شيء اسمه باطني فيها يميزها عن سائر الثقافات البشرية، ولربما توفرت هناك صيغة أكثر مرونة يتكيف الجميع بظلالها وتتيح تعايشاً ووحدة توقف هذا التشرذم والتشتت والانقسام، أما ثقافة الرفض فلا تولد إلا المعارضات.

فالمسؤول الأول عن نشوء الباطنية، والمراوغات الفكرية التي نراها، هنا وهناك، والتي لا تقترب عادة من جوهر المقدس الديني، أو تنال منه، هو آلية الزجر الدموية التي تبنتها الثقافة في فرض نفسها على هذه المجتمعات من جهة، وعبر إقفال باب الاجتهاد نهائياً أو معالجة النص الديني وفق مفاهيم عصرية من جهة أخرى وتقديمه برؤى إنسانية منفتحة وهيمنة الجهلة على الفضاء الفكري، ما أدى لحالة الركود الفكري والضمور العقلي التي خلقت هذا الوضع المؤلم التعيس الذي نعيشه من اجترار المفاهيم والأساطير، وجعلتنا نتسكع وquot; نفصعquot; خلف خلق الأرض أجمعين.

ببساطة شديدة، ومركزة، أيضاً، حين يفكر الإنسان بحرية، فلن يكون هناك أي مبرر لأية تقية أو فكر باطني.

نضال نعيسة
[email protected]