انهيار الإتحاد السوفياتي والمعسكر الإشتراكي، الذي كان القطب الآخر الفاعل في تعطيل فاعلية القطب الأول، خلق عالماً جديداً مختلفاً في كل شيء عن العالم السابق الثنائي القطبية. كل القوى فيه، السالبة والموجبة سواء بسواء، ليست مثل القوى في العالم المنحل. لذلك، فإن جميع المفكرين والعاملين في الشأنين السياسي والإقتصادي يترتب عليهم أن يتخلصوا من كل أطروحاتهم القديمة التي كانت تؤسس لأنشطتهم ليستبدلوها بأطروحات جديدة تحاكي العالم الجديد المختلف. كي يفعلوا ذلك يتوجب عليهم قبلئذٍ أن يتعرّفوا على العالم الجديد بكل تفاصيله وعلى مختلف القوى الفاعلة فيه. الشرط الأول القاطع لذلك هو وحده الإحاطة التامة بأسباب انحلال العالم القديم وأهمها أسباب انهيار المشروع اللينيني المتمثل بالإتحاد السوفياتي. ومنها أيضاً أسباب انحلال النظام الرأسمالي على الشكل الذي رأيناه منذ العام 1975 وهي ذات علاقة عضوية بأسباب انهيار المعسكر الإشتراكي بالإضافة إلى أنها محل اشتباه من قبل الذين لديهم معرفة سطحية بالنظام الرأسمالي. ولذلك، نقصر اهتمامنا هنا على أسباب انهيار الإتحاد السوفياتي.

لدينا حقيقة راسخة، ومستغربة تماماً بذات الوقت، تقول أن أحداً من المفكرين والسياسيين والاقتصاديين، بمن فيهم قادة الحركة الشيوعية في العالم، لم يغامر في البحث عن أسباب انهيار الإتحاد السوفياتي وتجليتها. نتساءل.. لماذا ؟؟ لماذا لم يغامر أحد من هؤلاء في مثل هذا البحث، بالرغم من أنه يجب أن يكون من أولى أولوياته ؟؟ من المؤكد أن صعوبة البحث ليست هي السبب طالما أن الإنسان بحث في كل ما هو صعب، حتى في أصل الكون. ليس من سبب آخر غير أن هؤلاء المفكرين والسياسيين والاقتصاديين والقادة quot; الشيوعيين quot; ليس من اهتماماتهم الأولية مستقبل البروليتاريا ونجاح مشروعها، بل إنهم في الغالب معادون لمشروع البروليتاريا الإجتماعي الثوري والتقدمي. فلماذا يرشدون البروليتاريا إلى طريقها السويّ ؟! ـ دعها تضلّ ! أدعياء الشيوعية منهم هم في حقيقتهم خونة الشيوعية ليسوا أقل من ذلك.

كيلا يفتضح أمر مؤامرة هؤلاء البورجوازيين الوضيعين قال فريق منهم بسقوط الماركسية، وقال فريق آخر بسقوط المشروع اللينيني بأيدي البيروقراطيين وأجمع الفريقان على إدانة دولة دكتاتورية البروليتاريا. لكن ما يفضح موقفهم ويؤكد عداءهم أو خيانتهم لطبقة البروليتاريا ومشروعها الثوري التقدمي هو أنهم تجاهلوا الردّة التي قادها خروشتشوف وزبانيته وتجلّت بصورة صاعقة في مؤتمرات الحزب العشرين والحادي والعشرين والثاني والعشرين في الأعوام 56 و 59 و 61 على الترتيب. كيف يجوز تجاوز إدانة ستالين وتطور الإشتراكية منذ العام 1922 حين تسلّم ستالين مركز لينين وحتى العام 1953 لدى رحيل ستالين ؟ كيف يجوز تجاوز إلغاء دولة دكتاتورية البروليتاريا واستبدالها بدولة هجين اسمها quot; دولة الشعب كله quot; ؟ كيف يجوز تجاوز إلغاء مبدأ الصراع الطبقي وهو محطة الإنطلاق للعلوم الماركسية ؟ كيف يجوز تجاوز سياسة إلغاء طبقة الفلاحين التي أقرّها الحزب في العام 52 لصالح تعضيد طبقة الفلاحين في العام 57 ؟ كيف يجوز تجاوز إلغاء التضامن الإقتصادي بين المؤسسات الإنتاجية المختلفة لصالح استقلالها الإقتصادي ؟ كيف يجوز تجاوز إلغاء سياسة الصراع مع المعسكر الرأسمالي لصالح سياسة ما سمي ب quot; الوفاق الدولي quot; والإلتقاء مع الإمبريالية في منتصف الطريق ؟ كيف يجوز تجاوز إلغاء الوحدة العضوية بين الثورة الإشتراكية وثورة التحرر الوطني التي كرسها لينين في العام 21 لصالح الفصل بين الثورتين والحفاظ على خط فاصل بين الثورتين ؟ الدولة السوفياتية بقياد خروشتشوف وزبانيته، بريجينيف وأندروبوف وغورباتشوف اتجهت في الإتجاه المعاكس تماماً وبزاوية 180 درجة لاتجاه الدولة الإشتراكية، دولة دكتاتورية البروليتاريا بقيادة رمز البلشفية الأول، ستالين.

لا يمكن لأي مراقب غير مغرض أن يتجاهل مثل هذا الإنقلاب الكليّ الذي حصل في القيادة السوفياتية والسياسة المحلية والدولية للدولتين، دولة دكتاتورية البروليتاريا ما بين 1921 و 1954 و quot; دولة الشعب كله quot; كما زورتها عصابة خروشتشوف ـ بريجينيف ما بين 1954و1991، العصابة التي والتها بحماس منقطع النظير كافة الأحزاب الشيوعية العربية بشكل خاص. ـ هل يُقبل تجاوز مثل هذا الإنقلاب الكليّ ثم أن يقال بعدئذٍ بسقوط النظرية الماركسية أو أن يزعم بعيب في المشروع اللينيني الإشتراكي ؟ وهل تُقبل أيضاً مزاعم أيتام خروشتشوف بالإدعاء الوقح أن سبب انهيار مشروع لينين هو وقوعه في أيدي البيروقراطية ممثلة بستالين ورفاقه البلاشفة ؟ هل تقبل مزاعمهم وقد ملئوا العالم زعيقاً في العام 56 يشجبون بيروقراطية ودكتاتورية ستالين ويؤكدون بذات الوقت أنهم سيقيمون الديموقراطية الكاملة في البلاد السوفياتية وسائر البلدان الإشتراكية !! ـ لم تمض بضعة أشهر على هوسة الديموقراطية في المؤتمر العشرين للحزب في العام 56 حتى قام هؤلاء الحقراء بانقلاب عسكري في حزيران/يونيوه 1957 وقد رفض خروشتشوف قرار المكتب السياسي للحزب وهو أعلى سلطة بغياب الجمعية العمومية للحزب، رفض قرار تنحيته من جميع وظائفه في الدولة وفي الحزب ـ تلك هي ديموقراطية البورجوازية الوضيعة ومنها خروشتشوف وأيتامه مقابل دكتاتورية ستالين الذي قدم استقالته مرتين إلى الجمعية العمومية للحزب أثناء المؤتمر التاسع عشر في نوفمبر 1952 وتم رفض طلبه في المرتين بالإجماع.

أيتام خروشتشوف ما زالوا كعرّابهم يبولون على أنفسهم في سراويلهم دون أن يعوا. لا يعون بأنهم إنما يفعلون هذا لأنهم انقلبوا إلى أعداء للبروليتاريا. كان كارل ماركس قد أكّد في quot; نقد برنامج غوتا quot; أن فترة عبور الإشتراكية تتم حصراً بقيادة دولة دكتاتورية البروليتاريا وقد استخدم ماركس كلمة (exclusively) ومعناها حصراً. واليوم يأتي من تعفنت عقولهم في رؤوسهم المغلقة على الريح الفاسد ليصححوا ماركس وينفوا دكتاتورية البروليتاريا بادّعاء أن ماركس لم يقصد استخدام القمع والإضطهاد أو حرمان البورجوازية من الحقوق المدنية !! يا للهول، أي عقول عفنة مثل هذه العقول ؟!! هل لأي دولة أن تقوم بوظائفها بغير القمع والاضطهاد ؟! المجتمعات الطبقية أصلاً لا تتطور إلا بفعل القمع والإضطهاد، وهما الخصيصتان الملازمتان للصراع الطبقي، والمجتمع الإشتراكي هو مجتمع طبقي حتى انقضائه. لقد اشترط ماركس دكتاتورية البروليتاريا حصراً لتحقيق هدف الإشتراكية الأول وهو مصادرة كل quot; حقوق quot; البورجوازية مدنية وغير مدنية بل ومحو طبقة البورجوازية كليّاً من الوجود، وإلا فما عساها تكون الإشتراكية غير أنها quot; محو الطبقات quot; بتعريف لينين المتكرر ؟ ونسأل هؤلاء المتعفنين.. أليس حق الملكية هو من الحقوق المدنية ؟! وهل تحرّمون على دولة البروليتاريا مصادرة ممتلكات البورجوازية من مصانع وأدوات إنتاج وبنوك ؟ ثم إن ماركس لا يعترف أصلاً بكل الحقوق التي لا تعني شيئاً في معمعان الصراع الطبقي ؛ الطبقات المستغلة هي التي تفرض الحقوق، معانيها وحدودها، وهي دائماً حقوق بورجوازية معنىً ومبنىً. الإشتراكية لا معنى لها إن لم تمحُ كل الحقوق وتنتهي إلى إنعدام كل الحقوق بعد العبور إلى الشيوعية.

ليس غريباً أن يجهل أيتام خروشتشوف أبجدية الإشتراكية ؛ ألم يحاول خروشتشوف بناء الإشتراكية بسواعد الفلاحين وليس العمال مثلما حاول بعدئذٍ الخمير الحمر في كمبوديا ؟!! هل تصل خيانة الشيوعية لحد إنكار دور العمال في بناء الإشتراكية ؟ ويتعلل أيتام خروشتشوف بأن روزا لكسمبورغ كانت قد عارضت دكتاتورية البروليتاريا التي فرضها لينين في روسيا وقالت.. quot; الحرية هي حرية المختلف حصراً quot;، لكنهم يحجمون عن التطرق إلى أن الآخر المختلف الذي كرست حريته السيدة لكسمبورغ هو من قام بتمزيق جسدها وجسد ورفيقها كارل ليبكنخت وأباد عشرات آلاف الشيوعيين من المدافعين عن الجمهورية السوفياتية في بافاريا في العام 1919 بعد أن قالت قولتها الشهيرة تلك بأشهر قليلة. تلك هي النتيجة المباشرة لحرية المختلف. وماذا لو سلَم لينين بمقولة السيدة لكسمبورغ، quot; الحرية هي حرية المختلف حصراً quot;، أو فسّر ماركس بمثل ما افترى عليه أحد أيتام خروشتشوف السفهاء بالزعم أن دكتاتورية البروليتاريا إنما quot; هي تركيز السلطة كلها في يد التمثيل الشعبي quot; ؟ لو سلّم بذلك لتوجب علية أن يرجع عن انتفاضة أكتوبر في نوفمبر ويعيد السلطة إلى حزب الإشتراكيين الثوريين، حزب كيرنسكي، وقد احتل أغلبية المقاعد في الجمعية التأسيسية ؛ أن يعيد السلطة إلى ذات القوى التي انتفض البلاشفة ضدها وجردوها من السلطة. لو كان لينين بورجوازياً وضيعاً من طراز أيتام خروشتشوف وأعاد السلطة للبورجوازية الروسية المتهالكة لتغير بالطبع مجرى التاريخ في القرن العشرين. كانت روسيا القيصرية التي تزيد مساحتها عن ضعف مساحة أوروبا ما زالت إلى اليوم مستعمرة فرنسية وألمانية وكان العالم كله يعيش اليوم في أوج إزدهار الرأسمالية والإمبريالية التي تحتفظ بكافة دول العالم الثالث كمحيط لها تكب فيه فائض إنتاجها. هكذا سيكون العالم بدون لينين ـ لعل بعض كارهي البشرية وأعداء اللينينية يفضلون ذلك !!

أنا أدعو هنا الذين يعترضون على كتابتي بقلم فولاذي جارح، كما وصفه بعضهم، لأن يتفرجوا على أيتام خروشتشوف كيف يبولون على أنفسهم في سراويلهم دون وعي منهم وقد انضموا إلى تروتسكي والفوضويين بعد أكثر من ثمانين عاماً إذ يقولون.. quot; إن الإخلاص لروح الماركسية يقتضي في الوقت الراهن العدول نهائياً عن مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا والعودة إلى النبع الأول، كما قصده ماركس ورفيقه : رقابة وإشراف شعبي من أسفل quot; بمثل هذا كان تروتسكي والفوضويون قد طالبوا في المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي البولشفي في العام 1921 إلا أن لينين هاجم بشدة ذلك الإتجاه الفوضوي الذي لا يعني سوى تجريد الحزب من كل سلطته وقطره ذيلا لمختلف القوى الأخرى البورجوازية العاملة بين الجماهير. لينين كان يعي مرامي تروتسكي الذي كان قد قضى عمره السياسي 1903 ـ 1917 معادياً للبلاشفة وللينين شخصياً. لكن هؤلاء الأيتام تجاوزوا تروتسكي في عدائه للبولشفية وللماركسية وطالبوا بإلغاء دكتاتورية البروليتاريا نهائياً. هل يعون أنهم بهذا إنما يطوّبون الرأسمالية ؟ وليس من يسحق من يطوّب الرأسمالية سوى دكتاتورية البروليتاريا ؟ من يقرأ نصهم كلمة كلمة يدرك تماماً أن هؤلاء القوم يعلمون تماماً أن ماركس كان قد حصر الاشتراكية بدكتاتورية البروليتاريا. لذلك قالوا quot; روح الماركسية quot; وليس الماركسية، وقالوا quot; في الوقت الراهن quot; وليس قبله ! ولنا أن نتساءل هنا.. قوم لا يعرفون ما هي الإشتراكية فكيف لهم أن يعرفوا الماركسية ؟ وقوم لا يعرفون الماركسية فكيف بهم يعرفون روحها ؟ وطالما أنهم لا يعرفون روحها فكيف يخلصون لها ؟

معارضة أيتام خروشتشوف لدكتاتورية البروليتاريا تذكرنا بمعارضة المرتد كارل كاوتسكي الذي ظل يكتب ضد دكتاتورية البروليتاريا إلى أن وطدت البروليتاريا السوفياتية دولتها الدكتاتورية في العام 1922 ؛ وإذّاك تخلّت الأممية الثانية ومعها كاوتسكي عن الماركسية نهائياً. ما نرجوه هو أن يتخلّى أيتام خروشتشوف، أعداء دولة دكتاتورية البروليتاريا، عن الماركسية في وقت مبكر مثلما فعل حزب الشعب في سوريا وحزب الشعب في فلسطين وأدعياء الشيوعية من بعد فيريحونا ويستريحون مستقرين في طبقتهم البورجوازية الوضيعة.

فـؤاد النمري
www.geocities.com/fuadnimri01