يًقصد بكلمة العقل: الحِجروالنُهى ضد الحُمق،وجمعه عقول،والعاقل هو الجامع لأمره ورأيه.وقيل العاقل هو الذي يحبسُ نفسه ويردها عن هواها،وهو الذي يعقل صاحبه عن التورط في المهالك،وهو التمييز الذي يميز الانسان عن الحيوان.وفي الحديث الشريف :ان القرآن الكريم هو كالأبل المُعَقلة اي المشدودة بالعِقال، والتشديد هنا جاء بمثابة التكثير في الربط للمعاني الثابتة فيه،اي انه منزهُ عن الخطأ.

والعقل يحكم بوجوب العدل وكمال منزلته من دون ان يكون هناك ملةُ او دين،كما يحكم بقبح الظلم،وهذا أمرمركوز في جبلة البشرالعاقل الذين فطروا على التمييز بين الخير والشر،النافع والضار،الحق والباطل،فهل ينكر العقل والعقلاء حسن الصدق وقبح الكذب؟ وهل ينكرون حسن الامانة وقبح الخيانة؟وهل هم بحاجة الى من يرشدهم الى هذا أو ذاك؟ ( الفلسفة والاعتزال ص83).حتى قيل ان العقلَ مضطر لقبول الحق:( على حد قول الامام الشافعي قولا وصدقاً، (الرسالة).

سيبقى العقل والحق صنوان لا يفترقان،واعمال العقل في القرآن فرض عين مُلزم،وهذا يعني أننا لابد وان نعمل بعقولنا لا بقلوبنا ولهذا كان هذا الدعاء:quot;اللهم أجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنهquot;.ولم ترد الكلمة في القرآن مفردة وأنما جاءت على هيئة الجمع من الكلمة في (49 )مرة، وعلى سبيل المثال،يقول القرآن الكريم:quot;آتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون، البقرة 44quot;،ومثلها كثير.

ويقول الامام علي(ع) ( العقل هو الحكمة).ولقد ربط الامام بين العقل والعدل في
نظرية المصلحة حين قال: لم يخلق الخلق عبثاًعلى وجه يخلوا من الحكمة،ولم يتركه متخبطاً في معمياته،لذا فاللطف بعباده يلزم عليه عقلا، أذ لاسبيل الى الامتثال بأوامره ونواهيه الا بالعقل(نهج البلاغة). وفي نظرية الحسن والقبح تقول الاشاعرة:( ان الحُسن والقُبح تابعان لامر الشرع،فالواجبات كلها سَمعية،والعقل لا يوجب شيئاً ولا يقتضي تحسيناً ولا تقبيحاً،(الملل والنحل ج1ص101).وهناك نقاشاً يطول شرحه.وحين تحدثَ الامام علي عن الحقيقة مدح العقل باعتباره القادر على التمييز بين الخير والشر، والحسن والقبح، والامانة والخيانة. وفي النهاية يقرر الامام :ان المسئولية الاخلاقية في الدين هي للعقل لا للقلب دون الحواس الاخرى حين يقول: ( ليست الرؤية مع الابصار،فقد تُكذب العيون أهلها لكن العقل لا يغشُ من استنصَحَهُ (النهج).

ان علماء الحضارة الانسانية واصحاب النظريات الفلسفية ينظرون الى العقل من جانب أخر،هو النشاط الذي يقوم في كيان الانسان عن طريق المخ. لكنهم لم يقولوا لناعن الفرق بين المخ والعقل الا بعد فترات طويلة من التاريخ. والمخ هو عضويشترك فيه الانسان مع بقية الحيوانات والطيور والاسماك،لكنه عند الانسان اكبر واكثر تعقيدا وخلاياه اكثر تنوعا،ومع هذا احتاج الانسان الى مئات السنين حتى اصبح يدرك كيفية الربط بين الحوادث وأختزان النتائج والملاحظات.فحين بدأ الانسان يعقل الاشياء اي يربطها، بدأ العقل يدرك اول طريق الحضارة،من هنا اعتبروه اول مخترعات الانسان.ولقد ازدادت قدرة الذهن على العقل بمرور الايام وقدرة الاستعمال والمران شأنه في ذلك شأن العضلات الجسمية الاخرى.
لقد اصبح استخدام الذهن استخداماً منظما،عملية حضارية حين اصبح التفكير عنصرا اساسيا وفعالا في توجيه الانسان وصنع الحضارة،واصبح التفكير هو الهدف الاساسي في حياة الانسان.فالحق ان حياتنا التي نعيشها اليوم تصرفنا عن التفكيربشكل عقلي منظم لظروف قاهرة احياناً وبعيدة عن ارادتنا أحياناً أخرى،وليس في الدنيا اخطر من العيش بدون تفكير.والتفكير له اصوله وقواعده فمن اصوله ان يقرأ الانسان ونحن ndash;مع الاسف- نكتب دون ان نقرأ الكثير مما نكتب ويكتبون وتلك معضلة نواجهها اليوم في مجتمعاتنا العربية،ناجمة عن المسئوليات الكثيرة التي يتحملها الانسان العربي وسط تعقيدات الحياة الحالية والمسئوليات الشخصية المتفاقمة التي لم تدع لنا من فرصة للاسترخاء والقراءة،ناهيك عن نقص في توجهاتنا المنهجية في المدرسة والجامعة حين اصبحت القراءة روتينية لا ملزمة. وتلك مشكلة يعاني منها الجميع.

وتقف الغريزة الى جانب العقل عند الانسان. ان اخطرما يواجه الانسان هو الصراع بين الغريزة والعقل،لكن الغريزة دوما هي الاقوى لانها مركبة في الطبع،في حين ان العقل مكتسب،وهنا اذا ما تغلبت الغريزة على العقل تسوق الانسان الى المهالك والانحراف الخطير كالاجرام والعدوان على الناس والاموال والاعراض.وسيطرة الغريزة على الحاكم تسوقه نحو ارتكاب ابشع الجرائم واختراق القانون والهبوط به الى مستوى الاباحية والفوضى الخلقية وخيانة الوطن،وهي اكبر جريمة يرتكبها الحاكم في وطنه، وهي مرفوضة رفضا باتا شرعاً وقانوناً،لذا وضعت الشريعة شروطا قاسية لمن يتولى السلطة في الدولة ويقف على رأسها القسم المقدس الملزم.لذا ترى بعض الحكام الذين تسيطر عليهم غرائزهم ولا يلتزمون بشروط المسئولية الوظيفية تكون نهايتهم وخيمة كما في هتلر وموسليني وكرافدش وصدام حسين واخرين من مسببي الحروب وقتلة البشر.

قيادات الشعوب بحاجة الى الوعي الحضاري،والوعي الحضاري، ما هو الا نتيجة للعقل،فهم محتاجون لعقول ناضجة مدربة وكلنا محتاج لتدريب عقلة على المحاسن والتفكير المنظم والا سقط الجميع في وحل الهزيمة والانكساركما نحن فيهما الان.فليس كل من تعلم يمكن ان يكون حاكما،لان الحكم له شروطه ومزاياه التي حددتها الشريعة في نظرية الاستقامة الكلية(السراط المستقيم) التي لازالت بعيدة عن التفسير العلمي في مناهجنا الدراسية في المدرسة والجامعة،لذا لم نتعلمها بعد، فمثلاً ليس من حق الحاكم ان يستعين بالمفضول بوجود الافضل في السلطة وأداراتها وتحت اية ظروف ملزمة كما في وطننا العربي اليوم،لان قيادة الوطن مسئولية شرعية وقانونية لا يجوز اختراقها بحجة صلاحيات الحاكم، لذا اغلب مسئولينا اليوم هم بحاجة الى النزعة العقلية في حكم الدولة، هنا نراهم بحاجة ماسة الى النصح والارشاد وألزامية القانون،لان الكل امام القانون سواء، وهذا ما هو متبع الان في الدول العالمية المتقدمة والمتحضرة الراعية لشئون اوطانها وشعوبها والملتزمة بالقانون والدستور.،وهم مطالبون ايضا بأن يكون الجزاء للعاملين بالدولة على قدر المواهب والجهد المبذول ومستوى ذلك الجهد من الدقة وعدمها ونصيب العلم والخبرة في العمل وان تكون للانسان حرية التصرف والتنفيذ،على ان يكون آمنا على نفسه وماله وثمرة أتعابه كل ذلك ممكفولا بنص القانون والعرف الاخلاقي للجماعة وبذلك يكونوا قد كسبوا المعرفة والعلم والالتزام في النهاية.

من هنا على المرجعيات الدينية الكبرى وهي المطاعة في المجتمع والدولة، واجبا دينيا وأنسانياً ملزماً ان توجه الحاكم نحو الصلاح والفلاح وتطبيق مفردات مفاهيم الحق والعدل كما وردت في القرآن والسنُة النبوية الشريفة، لا باسداء النصيحة فقط،بل بالزامية التطبيق،وان تبتعد عن كل ميل سياسي يخدم الحاكم حتى لا تقع في انحراف السياسة وخذلان المجتمع وهذا هو الاسلام، الذي ندعوا اليه في مجتمعاتنا العربية الاسلامية،نحن نريد مرجعيات دينية فاعلة تقف بصف الشعب لتقول للحاكم انت مخطىء وقت الخطأ والانحراف،وانت عادل وقت العدل والصلاح،لا مرجعيات مقدسة على طريقة (قدس الله سره) ومتكئة على الحيطان.هكذا كام محمد(ص) وعمر وعلي(رض) ومحمد باقر الصدر طيب الله ثراه الشريف وأخيار المسلمين، فأين نحن منهم الان،وقد أهمل الحاكم واجباته الدينية والسياسية وقد جعلها طائفية وعنصرية ومحاصصة وظيفية دون شرع الجماعة فهل سنبقى من الساكتين.

نحن ندعو دوما الى ادخال الدراسات الفلسفية والتوجهات العقلية في مناهجنا الدراسية المبنية على العلم والتجربة، والابتعاد عن المناهج الغيبية التي تضع عقول الناشئة في الدوائر المغلقة التي تلغي الزمان والمكان وتسقط العقل والتاريخ والمنطق لرغبة سلفية هاربة من مواجهة تحديات العصر الحديث والتي لم تستطع تقديم الحلول لمشاكل مجتمعاتها المعاصرة. نحن ندعو مؤتمر الكفاءات والخبرات العلمية الذي سيعقد في بغداد في 22-24 من الشهر الحالي بدعوة من مجلس النواب العراقي الى تبني هذا المنهج القويم ونقله الى منهج الدراسة والا سوف لن نجني منه الا الريح. نرجو للمجتمعين النجاح والفلاح والصلاح وان يكون مؤتمرهم ثورة فكرية لا اجتماعات روتينية يخرج بتوصيات نستفيد منها ونفيد،والله الموفق الى كل رشاد.


د.عبد الجبار العبيدي
[email protected]