بهاتين الكلمتين رد الرئيس الامريكي المنتهية ولايته quot;بوشquot; على الموقف المحرج الذي تعرض له اثناء زيارته الوداعية للعراق. فبدلا من توديعه بالورود (كمحرر) للجماهير العراقية حسب توهمه، ودع السيد بوش بضربة حذاء صحفي عراقي وتحت تصفيق الجماهير لا في العراق فحسب بل في كل انحاء العالم.


وقد صعقت ضربة الحذاء، حلفاء الاحتلال في العراق بشكل خاص، ربما لانها جاءت في عز افول quot;المحافظين الجددquot; وانهيار مشروعهم لتصدير الديمقراطية الزعومة للشرق الاوسط وهو انهيار نتج لعيب فيهم وفي خططهم وليس في الديمقراطية.


ومنذ حادثة الحذاء، حلت محل الدعاية الطائفية والاثنية التي فرقت العراقين، الدعاية الوطنية التي جمعت العراقيين.. فانتقلت الجماهير العراقية من الضراوة عندما ارتكبت تحت تاثير الطائفية والاثنية التي اشرف عليها الاحتلال، ودفعها للانخراط باعمال عنف وتطهير طائفي وعرقي سالت فيه دماء غزيرة، الى البطولة والمطالبة بالتضحية بالنفس نيابة عن البطل صاحب الحذاء، الذي اطلقت عليه الجماهير لقب (موحد العراقيين)
وظهرت اعداد لاتحصى من الكتاب والساسة والادباء، انبروا الى اعلان التصريحات ونشر المقالات ونظم الاشعار والقصص والرويات التي تمجد البطل المغوار الذي دافع بحذائه عن عن شرف الامة المهان، وتطالب السلطة القائمة في المنطقة الخضراء باطلاق صراحه. وبعض الكتابات اخذت تغالي في العواطف والمديح لدرجة تقديس حذاء البطل العراقي (المنتظر) وتدعوا بان يوضع في المتحف للزيارة (!)


وهناك مقالات اخذت تشرح فوائد (ضربة الحذاء) المادية والمعنوية باسلوب حار وبليغ وتدعو الى الايمان بضرورته لتحرير العراق. فاصبح (الحذاء العراقي) ابتكار جديد للمقاومة وظاهرة معدية تقلد على الصعيد العالمي، تستمد جذورها من العقل العراقي المبدع، ومن المعلوم بان العقل العراقي يعتبر اول عقل مفكر، علم الانسان كيف يقرأ ويكتب ويحسب الزمن. وهو الان يخترع سلاح جديد للمقاومة، اُقترح لمواجهته ان يكون الحضور المدعوين مستقبلا الى الاجتماعات والمؤتمرات والمناظرات حفاة الاقدام (!)


وقوبلت هذه الموجة الجماهيرية العاطفية بمعارضة شديدة من قبل صناديد الاحتلال خصوصا في العراق وهم ( الكتل والاحزاب الطائفية والعرقية)، فقد شن هؤلاء على الجماهير فورا حملة عنيفة بحجة مخالفة بطلها المنتظر مهنية الصحافة واصول الضيافة. وحاول ايضا اصدقاء الاحتلال، اظهار الاستهزاء بمظاهر الاحترام والتبجيل، والاعجاب المتناهي، التي تسبغه الجماهير على البطل صاحب الحذاء. ولم يكتفوا بذم الجماهير وبطلها بل كتبوا المقالات ونظموا المناظرات والتعليقات والخطب التي تمجد الاحتلال وتزينه الى النفوس.


ومن الجدير بالذكر، بان اصدقاء الاحتلال وكذلك الجماهير تشترك في نفس الموقف في الدفاع عن بطلها، لان قضية البطل لكلاهما تقوم على نفس الاساس وهي الحاجة التي يشعر بها المستضعف والجماهير للبطل القوي. ولكن بطل الجماهير يختلف عن بطل حلفاء الاحتلال.
فتقدير اصدقاء الاحتلال لبطلها يقتصر على مظاهر القوة وضخامة الارادة وفقا لمبدا الحق مع القوة. لذلك وجد هؤلاء بان تحقيق مصالحهم لا تتحقق الا عبر التحالف مع الولايات المتحدة باعبارها القوة العالمية الرئيسية، والدخول معها في علاقة تخادم لضمان حمايتهم. ولهذا يرتعبون خوفا من مسالة انسحاب القوات الامريكية، وهو اعتقاد خاطىء، لان الولايات المتحدة لا تعترف بمصلحة الضعفاء الا اذا تحولوا الى جلادين وادة لتامين مصالح القوي فحسب، اي ان يكون اداة لتطبيق مشروع المحافظين الجدد في العراق (!)


ولكي يبقي فريق المحافظين الجدد حلفائه الضعفاء تحت قبضته، يقوم من ناحية بتغذية المخاوف التاريخية المتراكمة، من جنوح الحكومة المركزية في العراق نحو الاستفراد بالسلطة، ومن ناحية اخرى، يحاول التملص عن التزامه بحماية حلفائه الضعفاء، خصوصا بعد جموحهم في الانتقام، من خلال مليشياتهم التي عبثت بالارض فسادا، تحت ذريعة انتقام المظلومين والمحرومين من السادة الظالمين.

وقامت ادارة بوش بهذه السياسية الجهنمية الخبيثة بايحاء من المحافظين الجدد رغبة منها، في إبقاء الدور الامريكي ككابح لجموح الانتقام. وهذا ما جعل اصدقاء الاحتلال وخصومهم على السواء، يطالبون ببقاء القوات الامريكية في العراق.
اما الجماهير فلا تسلم مقاليدها للبطل الا اذا اثبتت قيمته الاخلاقية وفائدته العمليه. وتمنح الجماهير ثقتها للبطل الذي يثير خيالها ويطلق لعواطفها قيمة مطلقة كما حصل مع المنتظر صاحب الحذاء. وتنتقص هيبة البطل لدى الجماهير عندما يزهق الارواح ويسفك الدماء، وان فعل ذلك فسيكون الاخفاق نصيبه.
وقد جسدت الجماهير العراقية هذه الحقيقة بهتافاتها التي تقول : quot;عبد العزيز القندرة والمالكي قيطانهاquot;. وحدث هذا التحول بعد ان اصبح ممثلي ال البيت مبتزين للسلطة والحرية ومضحين بملايين العراقيين الذين هجروا وقتلوا وعذبوا من اجل طموحاتهم في السلطة والمجد.
وتكشف لنا هذه الظاهرة جوانب هامة من شخصية الجماهير المميزة التي حددها عالم النفس الاجتماعي غوستاف لوبون. ومنها عجز الجماهير عن تشكيل راىء خاص ثابت ما عدا الاراء التي تلقن لها وتوحى اليها من قبل الاخرين، فما يقوله لها الزعماء وخصوصا اذا كانوا (رجال دين) يغزو عقلها سريعا فتتجه الى تحويله الى حركة وعمل (!)


لهذا يلجا الساسة دائما الى الحيلة لتضليل الجماهير. ونضرب على ذلك المثل التالي : صوتت الجماهير العراقية باستفتاء جماهيري لقانون الدولة الجديد واعُتبر بعد الاستفتاء قانون يمثل ارادة العراقيين، وقد نفذت الجماهير الاستفتاء دون ان تفكر بان من وضعه هو بريمر الحاكم المدني للاحتلال. وحصل الشيء نفسه بالنسبة لانتخابات البرلمان والحكومة، وهكذا يمكن بحيله غير واضحة تصبح قرارات حاسمة وباهضة الثمن مقبولة من قبل الجماهير (!)
وهذا ما يجعل الجماهير تتصف بالنزق وسرعة الانفعال وهذه الصفة تشترك بها كل الجماهير في كل زمان ومكان وتحت ظروف معينة. وقد خضعت الجماهير الامريكية تحت تاثير صدمة احداث 11سبتمبر المرعبة، لنزعة الحرب بتحشيد الرئيس بوش وفريق المحافظين الجدد للانخرط بشكل (لاواعي) في مواجهة وحرب عالمية طويلة مع ما يسمى الحرب على الارهاب.


وارتكب بوش والمحافظين الجدد (باسمها) مذابح في مناطق مختلفة من العالم بدءا من افغانستان وبقية الدول الاسوية المجاورة لها مرورا بالعراق والمذابح الاسرائيلية ضد الفلسطين ومجازر الحرب الاسرائيلية ضد اللبنانيين ثم التهديد بتغيير انظمة الشرق الاوسط والحرب (ضد الاسلام).
ولهذا السبب يُفسر تحريض الكتل والاحزاب الدينية بتجييش الجماهير في العراق وباقي البلدان العربية (من خلال القنوات الفضائية) وبتوجيه من الاحتلال، لضرب الاسلام من الداخل، لان قوى الاحتلال تعرف ما في اعماق الجماهير الاسلامية من عاطفة عداء موروثة منذ الحرب الاهلية وانقسام المسلمين في صدر الاسلام.


ولدى استنفار الجماهير من خلال هذه الفضائيات تذوب الفروقات الفكرية بين الافراد المنخرطين فيها، ويصبح العالم ورجل الشارع البسيط على مستوى واحد من التفكير تحكمه غرائز وانفعالات وعواطف متماثلة ويكون خاضعا (نفسيا) لقانون الوحدة العقلية للجماهير التي يقودها القادة المحركين المتحالفين مع الاحتلال.


وهذا دليل بخدمة الجماهير الاسلامية لمصالح الاحتلال دون ان ( تدري). وهذا ما جعل المنظر الاشتراكي الالماني كاوتسكي يعتبر : quot; ان عمل الجماهير لا يخدم قضية التقدم دائما. فما يدمره ليس دائما تلك العقبات الاكثر عرقلة للتنمية. فالجماهير تجيش العناصر الرجعية مثلما تجيش العناصر الثورية quot;.
وليس من الضروري ان تمضي القرون العديدة على ابطال التاريخ لكي تتشكل اسطورتهم بواسطة خيال الجماهير. فقد شهدنا بام اعيننا في العراق اسطورة الصحفي العراقي صاحب الحذاء قد تشكلت خلال بضعة ايام واصبح شخصية مثالية وصديقا للضعفاء والفقراء العراقيين، وقد فشلت كل محاولات صناديد الاحتلال بالتشكيك بهوية البطل المنتظر واتهامه بفلول صدام والبعثيين لان بساطة عواطف الجماهير وتضخيمها لبطلها يحميها من الشك وعدم اليقين. خصوصا اذا كان بطلها صاحب قضية نبيلة كالمنتظر صاحب الحذاء، الذي سحرها بشجاعته واخلاقيته التي لايمكن ان تنوجد في هذا الزمن الذي يمثل زمن الشر بامتياز.


لقد شهدت الجماهير العراقية والعربية انهيار الدولة ومؤسساتها وتهدمت البنية التحتية للبلاد وتعرضت للنهب والسلب بتشجيع من الاحتلال. وقد دمرت حضارتها وسرقت بشكل محزن. وتعرض الرجال والنساء على السواء الى التعذيب والاغتصاب في سجون الاحتلال ومعتقلات حلفائهم. وانتشرت المخدرات وممارسة الدعارة ومافيات الجريمة المنظمة في جميع ارجاء العراق بعد ان كان العراق من اكثر الدولة العربية محافظة وعراقة.


لقد شهدت الجماهير ارتكاب الاحتلال وحلفائه، فظائع لا عد لها ولا حصر، وعانت من حياة تموج بالشقاء والبؤس والخوف.. فكانت تنتظر منذ سنين من يخلصها بما هي فيه.. فكان المنتظر صاحب الحذاء هو البطل المنقذ ليرفع عنها الذل ولو نفسيا بضربة حذاء.
والظاهرة المدهشة في الجمهور النفسي، ايا كان الافراد الذين يشكلونه، وايا كان نمط حياتهم وامزجتهم ومزاجهم او ذكائهم، فانه يزودهم بنوع من الروح الجماعية التي تمنحهم القوة التي يفتقدونها بعد ان حولهم الاحتلال الى مجرد طوائف واعراق متصارعة ومتقاتلة.
اما صناديد الاحتلال فقد اخافهم افول بطلهم بوش وفريقه اليمين المتصهين الذين اخذ يختفي من مواقع السلطة والنفوذ واحدا بعد الاخر. فالابطال لا يطغى عليهم الفناء ما داموا قوى حية وما داموا مؤثرات فعالة.
وما قام به الاحتلال من ممارسات مهينة اثارت في نفوس الجماهير، الاحتقار الذي يولد الكراهية والحقد. والحقد يحفز ويشحن العزيمة على الاخذ بالثأر ويجلب على صاحبه العاقبة الوخيمة حتى لو كانت قوة عظمى.


وقد حذر علماء الفكر السياسي، الحكام والساسة، عبر التاريخ من مغبة الممارسات التي تثير احتقار الجماهير، لانها ستعود بالضرر عليهم وتكون سلاحا تنقلب ضدهم وضد قومهم، خصوصا بعد عجز ساسة البيت الابيض على وضع النهاية التي يريدونها لحرب العراق وفق ارادتهم، بعد ان اصبحت، نتيجة لتغيير ظروف الحرب، تحت ارادة الاخرين (!)


وهذه دلالة مهمة على مهارة الولايات المتحدة في اعلان الحروب وعجزها في صناعة نهاياتها، ابتداءا من حرب فيتنام مرورا بافغانستان ثم العراق ! التي اصبحت حروب مفتوحة لا يمكن التكهن بما ستؤول إليه نتائجها، خصوصا مع دخول (العامل الإيراني) الذي حول ساحات القتال الى ساحة حرب عصابات مكلفة جعلت الولايات المتحدة تعاني من عجز مالي وبشري ومعنوي شديد.
فاخذت الجماهير الامريكية تسال عن النهاية والهدف من هذه الحروب خصوصا بعد اعتراف الرئيس وفريقه بان اسلحة الدمار الشامل العراقية مجرد مراوغة اما القاعدة، المتهم الاساسي بقتل الامريكيين، فقد دخلت العراق مع المليشيات الايرانية بعد ان فتحت لهما الحدود في اعقاب الحرب والغزو، لتقتل الامريكان والعراقيين معا باعتراف وكالات المخابرات الامريكية والبريطانية التي نشرتها صحيفة تايم الامريكية.


وبالتالي فان ثمن الحرية التي تكلم بها السيد بوش هو مناورة ذات طابع دفاعي وقائي، لانقاذ ماء وجه امام الجماهير العراقية الذي فشل ان يكون بطل تحريرها، لانه يجهل فهم نفسية جماهير الشعوب الاخرى المختلفة الثقافات، وحتى مستشاريه الفطنين لم يكونوا يفهمونها اكثر منه. وكان جهله سبب فشل سياسته وسقوطه في المستنقع العراقي وتلقي الحذاء بدلا من الورود (!)

د. راقية القيسي
باحثة في جمعية الحقوقيين العراقيين في بريطانيا
[email protected]