هل ان العراقيين أكثر وطنية من اليابانيين أو الألمان؟
أم هم أقل وعياً وادراكاً لوطنيتهم؟



شغلني عنوان هذا المقال منذ الاٍحتلال الأمريكي للعراق في عام 2003، وبدء الصيحات المبكرة من جهات تدعي الوطنية الى دعوة القوات الأمريكية للأنسحاب من العراق، وزاد انشغالي به مع كثرة الأخذ والرد بشأن الأتفاقية الأمنية العراقية - الأمريكي من جهات تتعامل مع اميركا. وكنتُ اقارن دائماً وضع العراق مع حالة كل من المانيا واليابان قبل وبعد احتلالهما، فالدولتان حكمتا من قبل الدكتاتورية، وتحطمتا واحتلتا من قبل أمريكا، وتحولتا الى الديمقراطية، واليوم غدت اليابان أقوى دولة أقتصادية في العالم، كما اصبحت ألمانيا أقوى دولة صناعية أوربية، ولم تقل وطنيتهما أو ينقص شأنهما بسبب أحتلالهما واقامة قواعد عسكرية أمريكية على أرضهما، أو ارتباطهما بمعاهدة أمنية كتلك التي أبدت أميركا رغبتها في توقيعها مع العراق. فما الذي يجعل القضية العراقية أكثر تعقيداً في التعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية؟ وهل ان القيادات العراقية الحاضرة هي أكثر وطنية من القيادات اليابانية والألمانية التي تعاملت مع المحتل الأمريكي؟ أم إنها أقل وعياً وادراكاً لوطنيتها؟

عُرِف عن الشعبين الألماني والياباني اعتزازهما العميق بوطنيتهما وشعورهما العميق برقي امتهما وولائهما التام لقياداتهما السياسية، ما جعلهما سلاحا قويا بيد الدكتاتورية التي حكمتهما،وهددت بهما أحتلال وحكم العالم، غير انهما تحطمتا وتدمرتا تماما قبل ان تحققا مشروعهما الكبير. فورث الأحتلال الأمريكي لهذين البلدين، شعوبا وطنية منسجمة، واعية لواقعها المحطم، مقدرة لقوة المحتل، تتفانى من أجل بناء بلدها بعيدا عن المزايدات، ما سهل عملها وتنسيقها مع المحتل في عملية اعادة بناء واعمار بلدانها. وكما ذكر جون داور في كتابه quot;معانقة الهزيمةquot; ان اليابانيين كانوا اذكياء في اكتشافهم ان اميركا هزمتهم، لأنها دولة قوية وثرية، وعرفوا ان سر قوتها وثرائها يكمن في نظامها الديمقراطي، فاعتنقوا الديمقراطية، وتحالفوا مع المحتل الأميركي ليضمنوا حماية بلدهم، حققوا الثراء والقوة، وتمكنوا من بناء دولتهم لتصبح من ارقى دول العالم. وقصة أختيار القيادة السياسية لألمانيا الغربية طريق الحرية والديمقراطية وعملها التام مع الولايات المتحدة الأمريكية وما ادت الى نتائج إيجابية باهرة معروفة للجميع.

تقع كتابة وصياغة دستور أي بلد في مقدمة الأمور التي تشكل خارطة الطريق لتقدم وتطور ذلك البلد، فكان للدستورين الألماني الغربي والياباني اللذين كتبا في ظل الأحتلال الأمريكي وبمساعدته، دور كبير في تحويل المؤسسات العسكرية في كلا البلدين الى مؤسسات مدنية ديمقراطية حرة، ما ساهم في رفع المستوى الأقتصادي الى أعلى المستويات في هذين البلدين، واعاد لهما موقعهما المتميز بين دول العالم. ولا غرابة ان اليابانيين سموا دستورهم quot; بدستور ماكارترquot; تيمنا بالقائد العسكري الأمريكي الذي حكم اليابان فترة احتلاله، وجرى العمل بموجب ذلك الدستور أربعين عاما من دون تغييرات كبيرة طرأت عليه. وكتب الدستور الألماني الغربي هو الأخر تحت الأشراف الأمريكي المباشر، ولم يكن غريبا ان تبدأ مشاريع الدعم الأمريكية العملاقة للدولتين، كمشروع مارشال في المانيا، ومشروع ماكارتر في اليابان، نظرا لحسن العلاقة وعمقها بين هذين البلدين واميركا، ولم تكن مفاجأة ان تتحقق أغرب النتائج الأيجانية في كل من ألمانيا واليابان في العصر الحديث.

ان الخلفية الصناعية والأنسجام الديني والأثني لكلا المجتمعين الألماني والياباني، والوعي الناتج عن ذلك، قد وفرا الأرضية الصلبة للتحولات الديمقراطية في هذين البلدين، وسهلا التعامل مع المحتل الأمريكي على اساس المصلحة المشتركة، فتعاون جميع أفراد المجتمع من أجل المصلحة العامة في عملية بناء وإعمار البلد، وفق ما يتطلبه المجتمع الديمقراطي ويتمناه في زيادة قيمة الفرد.

وعلى النقيض من وضع المانيا واليابان، ورث الأحتلال الأمريكي في العراق عقلية عشائرية وطائفية نمت وترعرعت في ظل الأحكام الدكتاتورية السابقة، ووجدت بعد زوالها وانعدام النظام كثيرا من مغريات السرقة والفساد خاصة في بلد يتمتع بالغنى النفطي الكبير. إضافة الى ان تمركز النفط في أماكن دون غيرها، زاد من سعة الأنقسامات والصراعات الطائفية والأثنية لغرض السيطرة والهيمنة على حساب الوحدة الوطنية، وبذلك اصبحت هيمنة الروابط الطائفية والأثنية المحدودة أقوي من رابطة الوطن الواحد.

لم تتمكن القيادات العراقية التي هيمنت على الحياة السياسية ورافقت زمن الأحتلال، من فهم النظام الديمقراطي الأمريكي بصدق لتتبناه بحق، الا في مفهوم الحصول على الأكثرية العددية من أصوات الناخبين للوصول الى دفة الحكم، فبقت تيارات سياسية كبيرة منغلقة اما في بودقتها الطائفية او في خندقها القومي، وحشدت أتباعها من الناس للأنتخابات، بتهييج ودغدغة شعورها العاطفي، وانعكس ذلك على انتخاب لجنة صياغة الدستور، التي جاءت بتوافقات طائفية وقومية محدودة، بدلا من عقد أجتماعي بين افراد المجتمع، فكانت التنازلات الوطنية الكثيرة. وبدلا من ان يقر مبدأ فصل الدين عن الدولة، لغلق الأبواب على الأنقسامات، وتعميق روح المواطنة، أعتبر الأسلام دين الدولة الرسمي، مصدر اساسي للتشريع، فاتحا الأبواب للخلافات الطائفية والتناقضات مع المفاهيم الديمقراطية. وبسبب التوافقات الطائفية والقومية المحدودة، مررت مواد دستورية متناقضة ومبهمة بخصوص السياسة النفطية، تاركة المجال للمنافسة غير النزيهة على حساب إضعاف الدولة العراقية، فلم يكن دستورا موفقا في كثير من مواده عندما مرر قسرا، وخير دليل على ذلك حوادث السنوات اللاحقة لأقراره، وما نجم من حروب اهلية راح ضحيتها مئات الألاف من الناس، وتشرد الملايين من الأبرياء من ديارهم بفعل الترحيل والتهجير الأجباري المنظم لغرض فرض الأمر الواقع في تقسيم العراق الى مناطق نفوذ طائفية واخرى اثنية.

ان التعمق في الطائفية والقومية في العراق المتكون من طوائف وأثنيات مختلفة مزق الوحدة الوطنية وشتتها، وخلق شلة من السياسيين لأستخدام الطائفة كمطية لتحقيق أغراضها، كالتفكير في قيام اقليمها على أساس طائفي، أسوة بقيام الأقليم القومي، الذي حرص على زيادة قوة مليشياته المسلحة واقامة علاقات خارجية وتوقيع عقود تجارية ونفطية خارجة عن سيطرة الحكومة المركزية، الوضع الذي أربك العلاقة بين مكونات المجتمع العراقي وقلل من ثقتها بالحكومة المركزية، وتعقد الأمر كثيرا حينما أنخرطت عناصر كثيرة من المليشيات في أجهزة الأمن والشرطة والجيش الوطني مع الأحتفاظ بولائها لأحزابها السياسية، ما يتعارض مع المصلحة الوطنية. وبحكم الولاءات الضيقة، وتغلبها على الولاء الوطني، برزت تحالفات دولية واقليمية، تسمح بتدخل دول الجوار في الشؤون الداخلية للبلد، مما يتناقض والمصالح الوطنية العليا، وقد ظهر ذلك واضحا في كثرة العراقيل التي وقفت في طريق أنجاز الأتفاقية الأمنية مع أميركا.

ولضيق أفق كثير من القيادات العراقية وأهتمامها بمصالحها الضيقة، غاب عن فهمها الهدف الأميركي من أحتلال العراق، بجعله نموذجا ديمقراطيا يكون مفتاحا للتغيرات الديمقراطية في الشرق الأوسط،، فمثلما كان خلق النموذج الديمقراطي الحر في اليابان قوة تجابه النظام الشمولي في الصين، كذلك كانت التجربة الديمقراطية في المانيا الغربية نموذجا ومفتاحا للآنتصار على المعسكر الأشتراكي الذي قادته روسيا، من وجهة نظر أميركا، كذلك اريد من النموذج الديمقراطي الحر في العراق ان يكون مفتاحا للتغيرات الديمقراطية في الشرق الأوسط،، ما يخدم المصالح الأمريكية ويسهل استثمارات شركاتها، ويكون ردا قويا ضد الفكر الأصولي السلفي الذي بدأ يهدد الأمن والسلام في المنطقة والعالم.

إن الفارق الفكري الكبير بين القيادة العراقية والقيادتين الألمانية واليابانية في تعاملهما مع المحتل الأمريكي، واختلاف الأجندة العراقية، عطلا أستيعاب الهدف الأمريكي من احتلال العراق، ومنعا الأستفادة من القدرات والأمكانيات الأمريكية الهائلة لبناء العراق، وما رافق محاورات الأتفاقية الأمنية من شد وجذب لم يظهر العراقيين أنهم أكثر وطنية من اليابانيين أو الألمان، بل بين على أنهم أقل وعيا وادراكا لوطنيتهم. ويبقى أملنا معلقا في القيادات العراقية الشابة ان تتجاوز مخلفات الماضي وأخطاء الحاضر، وتنفتح للمستقبل المشرق في وحدة المصلحة الوطنية ورقي الأنسان العراقي.

الدكتور ثائر البياتي

[email protected]