لا غبار على جهودكما الجبّارة لتصحيح مسار الحكم والدولة لشعبٍ، كان بالأمس القريب أحد اللاعبين الكبار على خريطة العالم، وهو اليوم يرزح تحت ثقال كثيرة.


كلنا نعلم أن السياسة فن الممكن. ومن هذا الباب يستحسن ونحن نخوض في هذا الحديث، عرض جملة مسائل في ترددات السياسة التركية منذ تأسيس الجمهورية التركية.


النظام الجديد في تركيا قام على فكرة التغريب، باعتبار الغرب هو العالم المتقدم الذي يجب إتباعه. والإتباع يشمل جوانب الحياة من إقتصاد وسياسة وفكر وإجتماع وثقافة. هذا ما نحته الجمهورية بالرغم من صعوبات وعراقيل كثيرة.
منذ ذلك اليوم وتركيا تهرع حثيثاً لوضع شارة الغرب على صدرها، وتجاهد كثيراً الدخول في النادي الأوروبي.
إلّا أن العقبة الأكبر في بلوغ هذا الطموح تمثّل في كون تركيا وريثة إمبراطورية إسلامية حكمت أجزاء واسعة في الأرض، بل وقادت حملات غزو على ديار الأوروبيين، وأحتلت منها أراضي وممالك، بالغةً أسوار فيينا التي تقع في قلب القارة الأوروبية.
ومن هنا فإن صراعاً تنافسياً ظل قائماً على تبني الإمتياز بين حضارتين الغربية والإسلامية، حتى بعد الإنقلاب الذي حدث في تركيا، حيث تأسست الجمهورية على تخوم الإبتداء بتغريبٍ هزمَ إمبراطوريةً ذات عمرٍ طويل، في ميادين القتال، في واحدةٍ من أشد مراحل التأريخ فصاماً ونكداً للمسلمين والشرقيين، بشتى قومياتهم وطوائفهم.
هذا الصراع والذي استقر في باطن حركة المجتمع والدولة التركيين في مسار الحياة، تسبّب في قيد الثقال بخطواتهما في إنجاز السيادة والتطور من أجل التحرر من ضجر وحمولة التبعية للدول الغربية، التي لم يكن من همومها إيصال تركيا بصفوفها، حيث يكمن التطور والرخاء والتفوق.


لكن التغريب وإن نجح في بعض الميادين لكنه ظل محصوراً بالمظهر أكثر من الجوهر. فالغرب الحديث كان قد تأسس على مبادئ حقوق الإنسان والجماعات الإثنية والقومية والدينية والإجتماعية والثقافية المختلفة.
ومن جانبٍ آخر ظلت الحريات الشخصية على مستوى الرأي، لا سيما السياسي منه، وكذلك ممارسة النشاطات المختلفة محفوظة للفرد والمجتمع.


هذا المبدأ الغربي مشترك مع أصل إسلامي، بل وكان الإسلام سبّاقاً في ترسيخ مفاهيم التسامح والحريات الدينية والقومية بدليل وجود كلّ هذه المكونات المختلفة في ظل الحضارة الإسلامية في إنتعاشٍ وهوية ذاتية محفوظة.
الكيانات الشرقية الجديدة التي انبثقت من الإمبراطورية العثمانية، ومنها جمهورية تركيا، انسلخت من تراث المنطقة في الإدارة والحكم تحت دعوى العلمانية والحداثة، لكنها لم تطبق المبدأ الغربي، ولم تحذو حذوه في ترسيخ المبادئ السامية والضرورية لمكونات المجتمعات الشرقية.


أمن الكيان القومي/الإقليمي ظل حجة دائمة في ممارسة القمع ضد مكونات أساسية في تركيا ودول منطقتنا. دعوى التغريب والعلمنة بدأت تفقد مصداقيتها، في حالٍ كانت هذه الدول قد ابتعدت فراسخ زمنية، من روابط التراث الإسلامي الذي هيمن على المنطقة ثلاثة عشر قرناً.


وفي مضمار العلمنة والتغريب، أمست أحوال دول الشرق الجديدة وخصوصاً تركيا، كمن يريد دخول البيت من الشبّاك وليس من الباب. فالعلمنة والحداثة الأوروبيتين متعاضدتين ومتصلتين بمحتوى التسامح والحرية الدينية والقومية والثقافية والإجتماعية.
وبما أن الدول الغربية ظلت تمارس سياسة التدخل في منطقتنا لمصالحها ولأسباب كثيرة، فقد أصبحت أحوال وقضايا هذه الدول، ومنها تركيا، كأدوات وحجج للتدخل وإثارة الإضطرابات، وصناعة الأزمات لغايات سياسية، للمزيد من سيطرة الدول المتفوقة أي الدول الغربية.


لنذكر سيادتيكما بمثالين فقط، وفخامتيكما أعلم بذلك. حين اعتقلت تركيا السيد عبدالله أوجلان بمساندة دول كثيرة، كانت ألمانيا تزوّد تركيا بصفقة دبابات ليوباردو 1 و 2 في حين كانت المظاهرات الكُردية تعمّ بلاد الغرب كلّها، إحتجاجاً على إعتقال أوجلان. لكن وفي نفس الوقت فإن مصانع الأسلحة في إيطاليا واليونان وروسيا ودول غربية أخرى، لم تتوقف عن تزويد حزب العمال الكُردستاني بالأسلحة المتطورة في مراحل شتى.


في غضون الأشهر القليلة الماضية، قام الجيش التركي على الأقل بحملتين كبيرتين على كُردستان العراق. الأولى جاءت بعد تأييد أميركي مباشر، رافقتها تصريحات أميركية رسمية ضد حزب العمال الكُردستاني ووصفته بالإرهابي. لكن في الحملة الثانية والتي حدثت قبل أسابيع، ومني الجيش التركي بهزيمة قاسية، خذلت أميركا جمهوريتكم وحَمْلتِها ضد حزب العمال الكُردستاني الذي خرج منتصراً، لا سيما وبرّأته المحكمة الأوربية من تهمة الإرهاب قبل فترة وجيزة.

منذ ربع قرن، وتحديداً منذ عام 1984 وتركيا تخوض حرباً ضروس ضد الشعب الكُردي في كُردستان، الذي يدافع عن وجوده وهويته وتراثه. لم تجن تركيا من هذه الحرب سوى الخسارة، والديون، والمزيد من التنازل والرضوخ للدول الغربية من دون أن تخطو خطوة واحدة إلى الأمام، على عكس حزب العمّال الكُردستاني الذي تتعاظم قوته يوماً بعد آخر، بل وفي عقر دار أوروبا.
دولتكم دافعت على الدوام عن عدد قليلٍ من الأتراك في بلغاريا، للحيلولة دون ذوبانها في القومية البلغارية.
الشعب الكُردي الذي غمطته إتفاقيات دولية وظروف الحربين العالميتين، فقسّمته ووزعته على أربعة أنحاء، يناهز عدده اليوم بين أربعين إلى خمسين مليون إنسان. وكما تعلمون فإن الميزة التي اشتهر بها الأكراد عبر التأريخ، هي الفروسية والقتال، وعدم الخضوع للحكم الأجنبي. لذلك فإن الإمبراطورية العثمانية التي تشكلت من المسلمين من شتى الجنسيات، لم تحكم كُردستان، بل تركتها لأمارات كُردية تتولى إدارتها. ولعل هذا الإستقلال الذاتي للأكراد كان سرّاً وراء قوة الإمبراطورية التي اعتمدت على كفاءات الأكراد وقوتهم في حملاتها على أوروبا، وحماية حدودها الشرقية من الصفويين من جانب، ومن الروس وعملائها من جانبٍ آخر.
لولا الأكراد، لكان سقوط الإمبراطورية العثمانية سبق زمانه بفترة طويلة جداً. لذلك ليس غريباً أن كان الأكراد في طليعة المدافعين عن الإمبراطورية ضد الغزو الخارجي، في حروب كثيرة مثل تشالديران، قرم، نهر ساقاريا (وفي ساقاريا كان أتاتورك يقدم نفسه كخليفة مسلم ويلبس العمامة والجبّة!)، ومن ثمّ ثورة الشيخ سعيد بيران التي طالبت بالمحافظة على الخلافة كجامعة للمسلمين.
قبل حوالي أسبوعين افتتحت الحدود بين الجانب التركي واليوناني في قبرص. وبذلك انتهى الصراع الذي داعم عقوداً. تلك خطوة مباركة وتستحق الثناء. فالإنسانية اليوم بحاجة إلى المزيد من السلم والتعاون لمواجهة التحديّات الكثيرة في العالم المعاصر.
ولكن في الجانب الآخر، وداخل تركيا نفسها حيث الشريك الأكبر للأتراك في الإمبراطورية العثمانية، وفي الجمهورية الحديثة يعاني إقصاءً وحشياً ومتخلفاً ليس من الحكم والإدارة فحسب، بل ومن الحياة كلّها حيث سُلِبَ أخص خصائص وجوده وهو عطاءٌ من واهب الحياة، ألا وهو الهوية القومية الكُردية التي كانت السبب في إشعال عشرات الثورات التي أنهكت دولتكم.


الأكراد والأتراك أولى بإذابة الكتل الجليدية بينهما. فكلاهما إنصهرا في الثقافة الإسلامية المشتركة بينهما، والتي أغنت وجودهما.
سيادتي الرئيسين، إن من ينظر إلى كُردستان وإلى تركيا يظهر له بوضوح، أنهما منطقتان مختلفتان جداً. وهذا الإختلاف مردّه إلى سياسات غادرة وتعسفية بحق الشعب الكُردي وموطنه التأريخي كُردستان. هذه السياسات أجريت في عهود سابقة لحكومات قضت نحبها، لكنها تركت لكم اليوم ميراثاً ثقيلاً من كارثةٍ ما كانت لتكون لولا غباء وعنجهية الحكومات السابقة.
أنظروا، تلك الحكومات ولّت، والقضية الكُردية الآن أكثر ضراوة من أمس.


إن إستقرار تركيا ونموها وإزدهارها، من دون حلٍ جذري لقضية الشعب الكُردي شئٌ مستحيل.
وتركيا اليوم بحاجة إلى الثبات والتحدي الحضاري، وإثبات نفسها في العالم المتقدم.
إن الأكراد والأتراك يداً بيد، يستطيعان بناء دولة تعيد التوازن إليها في الإرتباك والقلق بين الأرضية الإسلامية للمجتمع، والأفق الغربي الليبرالي الذي تسعى الوصول إليه.
إن هناك فرصة تأريخية أمام تركيا قبل إنقلاب الموازين، في إطلاق مبادرة السلام والإستجابة لمطالبة حزب العمال الكُردستاني الذي يناشد من أجل مفاوضات سلامٍ للحرب القائمة منذ ربع قرن، والتي لن تنته بحلول عسكرية إلى يوم القيامة.
إن الخطوة العقلانية العظيمة تحتم على فخامتيكما، بإعتباركما إبنين بارّين لهذه الأمة، وأمينين على مصالح الأتراك والأكراد، إطلاق سراح السيد عبدالله اوجلان والشروع في مفاوضات مباشرة مع حزبه، وقطع دابر الذين أسعدتهم النيران الملتهبة بين الشعبين الكُردي والتركي.


إن أوجلان عقل كبير في عالمنا المعاصر، وهو مفكر من الطراز النادر جداً، وتستطيع تركيا توظيف طاقات هذا الرجل الجبّارة من أجل إحلال السلام في تركيا، والتخطيط لنهضة عملية للدولة وأركانها وبناها.
إن السلام والتعاون بين الأكراد والأتراك هو ضمان مستقبل مشرق لأبنائهما.
إن فرصة السلام سانحة، والأرضية التأريخية وأحوال العالم الراهن تفتح الأبواب على مصراعيها أمام لقاء تاريخي ينهي آلام شرائح واسعة من أبناء الشعبين، الذين يجمعهما الدين والجوار الجغرافي والمصالح المشتركة ومستقبل مشترك.
يجب أن لا يُسمح لتجار الحروب والدماء، دفع تركيا إلى المزيد من مستنقعات الكوارث والأزمات، فتركيا لم تستفد من ذلك قيد أنملة.
إننا واثقون من حرصكما على إنجاز شئ عظيم لتركيا. وأعظم شئ تقدران على إنجازه في سبيل ذلك هو الشجاعة: الشجاعة على مبادرة تأريخية في الحوار مع رجلٍ أسير في زنزاناتكم، يريد الدفاع عن هوية شعبه في ظل التراث الإسلامي لمنطقتنا، والنظام الديموقراطي المعاصر الذي يحفظ للناس حقوقهم.

الواجب الإسلامي يقضي بحقن الدماء وإحلال السلام. ومقتضيات الديموقراطية تفرض البحث عن حياة أرقى وأكثر إزدهاراً للشعبين في ظل السلام.

علي سيريني

[email protected]