لم تكتب بعد، على الأرجح، تلك المصادر، الموثوقة، الممكن لنا إعتمادها في إجتلاء تاريخنا الإسلاميّ ؛ ما زالت ربما في عهدة اللوح المحفوظ. ولكن ما هيَ المعضلة، في حقيقة الأمر : الواقعة أم مصدرها ؛ وما هوَ حجمُ الضرر، الذي ألحقه واقعُ أنّ المؤرخينَ كانوا بمعظمهم من المحدّثين ؟ لك الله، إذاً، يا بن طولون الصالحيّ، ولنا قلائدكَ الجوهريّة..

إنكَ أكثرَ حذراً في واقعة quot; الشمْسَة quot;، بعدما كلفك الكثير الإسهاب، غير المتروي، في أخبار القرامطة وجعلَ مركزكَ، العلميّ، في مهبّ المظنة أمام التلاميذ والمريدين، المالئين عن آخره الجامع الناصريّ، البرانيّ، في quot; الصالحيّة quot;. ففي عرضكَ للواقعة الأولى، المُتضمّنة إنتهاك الكعبة وتدنيس وإنتهاب الحجر الأسود، كنتَ قد غفلت عن التنويه بالمصدر ؛ وهوَ quot; أخبار القرامطة quot; لإبن سنان. شاءتْ لكَ الأثرة أن تتجاهلَ أصول التدوين، مفضلاً إطلاق العنان للخيال، مُضيفاً للواقعة بضعة أرطال من المفردات الفخمة، البليغة، زيادة ً للعبْرَة أو إتقاءً للشبهة.

دخلَ أبو سعيد الجنابيّ إلى الحرم الشريف، على رأس زنادقته، ثمّ أعقبَ ذلك هتكُ الحرمات وقتل وسطو وسبي. تناسيتَ هنا أستاذنا، مُتعمّداً، ذكر حقيقة أنّ أهل quot; مكة quot;، بنفسهم، إشتركوا في المقتلة، طالما أنها ستتيح لهم إسترجاع بضائعهم، المدفوعة الثمن من لدن الحجاج، المبخوسي الحظ. حسنٌ. ولكن من أين أتيتَ بهذا البيت، الشعريّ، المتوّج تفصيلك للمشهد الدمويّ ؛ حينما راح زعيم القرامطة يخوض صفوفَ ضحاياه، عاملاً السيف برقابهم :
quot; أنا بالله وبالله أنا، يخلق الخلقَ وأفنيهم أنا quot;

***
quot; الصالحيّ quot;، في عرضه التاريخيّ، الموسوم، شدّدَ إذاً على نشيد ذلك الملحد، هازئاً بالفرق الهرطوقية المُنكرة إطلاقا إياه، زاعمة أنه محاولة، مألوفة، للتشنيع على إمامهم، quot; الحلاّج quot;، ودو ـ بيته الشعريّ، المعروف، الذي يقول مطلعه :
quot; أنا بالله وبالله أنا، نحن روحان سكنا بدنا quot;

يلحّ مؤرخنا، أمام ذلك الجمع، الغفير، على أمر الإرادة السبحانية التي أعجزت القرمطيّ عن إقتلاع ميزاب الكعبة، الذهبيّ ؛ فيتوقف عندَ مايُسميه هوَ بـ quot; المعجزة quot;، سارحاً شارحاً. وإذا بأحد التلامذة، من الحاضرين، يتناهض للردّ : quot; ولِمَ لمْ تحم مشيئته تعالى الحجرَ الأسود، الأكثر قداسة ؟ quot;. اللعنة ! كان يجب عليه أن يُبدي الحذر، الواجب، قدّام فتية نابهين ـ كهذا التلميذ. بيْدَ أنّ الحماسة، في آخر الأمر، تناهت بمؤرخنا إلى متاهة اخرى. إذ إعتقدَ، عندئذٍ، أن إستصراخ اللعنات على الكفرَة، سينقذه من الورطة المحرجة ؛ فإنهال بها على أطيافهم، الشريرة، المالئة المكان من حوله. ثمّ راح في وصف ذلك الحجر، وكأنما هوَ اللؤلؤة، الفريدة، مُتناسياً أنه quot; لا يضرّ ولا ينفع quot; ؛ بحسب رواية، مثبتة، منقولة عن لسان الفاروق عمر ( ر ). المعجزة، لا بدّ أن تأتي بمضاعفاتها : quot; أرادَ القرمطيّ، الزنديق، إثباتَ بطلان تأثير الحجر، المقدّس، فأمَرَ بعضَ أتباعه بتكسيره وعلى مرأى من الحجّاج، المروّعين. حينما إنتهيَ فرط الحجر إلى أجزاء عديدة، مهشّمة، أشارَ الملحدُ بإتجاه الجمع، الجزع، مستهلاً المقتلة الكبرى. ولكنه، على الأثر، كان أمام معضلة حقة ؛ فعندما همّ بأخذ أجزاء الحجر إلى موطن الكفر، أضحى ثقلها هائلاً. هكذا إحتاج نقل الأشلاء تلك، المقدسة، إلى أربعين جملاً، ناؤوا بحملها... quot;

ـ quot; ولكن، أستاذنا الجليل ! كيف ذلك، وكلنا يعلمُ أنّ زعماء الجاهلية، الكفار، إستطاعوا بسهولة ويسر حمل الحجر الأسود، نفسه ؟ quot;، بادر ذلك التلميذ إلى الإعتراض ثانية ً. كان يذكّر ولا شك بتلك الواقعة، الشهيرة، عن إختلاف رجالات quot; قريش quot;، الجاهلية، على شرف حمل الحجر ذاك، بُعيدَ موسم تنظيف الكعبة ؛ فكادوا يقتتلون وكلّ منهم يحاول الإستئثار بالمهمّة. quot; لنحتكمَ إلى أول شخص، يَلجُ الحرَمَ من تلك الناحية quot;، إقترحَ أحدهم مومئاً إلى الجهة المفضية للبادية. إذ ذاك ظهرَ صبيّ، حدَث السنّ، يقود بعض الماعز، فعرفوا فيه أحد أبناء quot; هاشم quot;. أنصتَ الراعي، الصغير، إلى حكاية الخلاف وما عتمَ أن أشار عليهم بحكمةٍ، ما كان لها إلا أن تذهلهم ببساطتها : quot; إجعلوا الحجرَ على رداء، وليحمل كلّ منكم طرفه quot;. وما كان هذا الصبيّ، الحكيم، سوى محمّد بن عبد الله ( ص لاحقا ). أربعون جملاً، أستاذ !!

***
واقعة quot; الشمسة quot;، كانت أقل غرابةٍ روايتها ؛ على الأقل بالنسبة لمؤرخنا، الذي رواها برصانة مُستفيداً على ما يبدو من تلك الواقعة، عن الحجر الأسود، الموصوفة آنفا. لندعه يؤكد، أنّ المرء لا بدّ أن يكون كافراً، إذ يجرؤ على إنكار نور محمّد ( ص ). هذا النورُ، بحسب سيرة quot; إبن هشام quot;، قد إستوفى كماله إثرَ إسراء نبيّنا إلى السماء السابعة. وكان أحدُ أولاد العمومة الهاشميين، الجاهليين، قد شككَ بالمأثرة تلك، السماوية، زاعماً أنها من أساطير العجم ؛ فنزل فيه الكتاب : quot; إذ تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين quot;.

هذا النورُ، الإلهيّ، لا شأن له، على الأرجح، بتلك السحابة التي رافقت خاتم الرسل مذ صغره، وكانت تقيه ومن بمعيّته شرّ الهاجرة. أما والحالة كذلك، فقد ألهمه وحيه بإختراع إنسانيّ، جديد : الشمسة. ومن كان بحاجةٍ لمعرفة أوصاف الإختراع هذا، النبويّ، فليعُد إذاً للمؤرخ إبن طولون ؛ هوَ المُفصّل في أمره، والمُنوّه من ثمّ أنّ بني العباس ورثوه فيما ورثوه من أسلافهم، الأمويين، المُبادين عن آخرهم تقريباً. القرامطة، يقول مؤرخنا، وقعوا على قافلة الحجّ، العائدة لأحد الخلفاء العباسيين، وكانت تضمّ كنز النبوّة : حجر إبراهيم وقرن كبش إسماعيل وعصا موسى وحلق مريم و شمسة محمد. ومن نافل القول، أنّ القافلة إنتهبتْ بعدما قتل نصف رجالها وسبي معظم نسائها. ثمّ رحلَ الكفرة أولئك بغنائمهم، محتفظين بكل ما حواه المحمل الشريف. مظلة عتيقة، رثة، من سعف النخل، تبدّت لهم عندئذٍ بين قائمة المنهوبات ؛ فأرادوا رميها في الطريق. ولكنّ أسيراً كهلاً، تطامن برأسه فجأة ليرجو الحرسَ أن يهبوه اللقية تلك، علها تقيه شمس الظهيرة، الجهنمية. لم يكن هذا الكهلُ، كما عرفنا فيما بعد، سوى quot; الأزهريّ quot; ؛ العالم البغداديّ الفقيه، الذي أدركَ، لوحده، أيّ كنز ألقاه بين يديه أولئك الملاحدة، الجهلة. بقيَ الرجلُ في أسرهم بضعة أعوام، تمكن خلالها من تكريس فراغه في إنجاز كتابه quot; التهذيب quot; ؛ إحدى درر اللغة العربية، الواقع في عدة مجلدات. أطلقوا سراحه، أخيراً، فعاد فوراً إلى حاضرة الخلافة الإسلامية، ليستأذن من ثمّ في المثول بحضرة الخليفة. دخلَ عالمنا على أمير المؤمنين وهوَ يحمل له هديتين : الشمسة والمخطوطة.

دلور ميقري

[email protected]