من الأعمال التي لا يحاسب عليها القانون في جميع أنحاء العالم تقريباً الأكل والشرب والضحك والبكاء جهراً في الأماكن العامة، [قلنا تقريباً لنعصم كلامنا في حالة أخطأنا التقدير] ولكن هذه الأشياء التي ذكرناها رغم أن القانون لا يحاسب عليها إلا أنها تعد من الأفعال القبيحة لدى العقلاء، ولطالما ينظر العقلاء لهذه الأشياء بهذه النظرة فمن الطبيعي لا يمكن أن نراهم يقومون بها جهاراً وعلى مرأى ومسمع من الآخرين.

ومن هنا يظهر أن القدرة وجدت لدى الطرفين الفاعل والممتنع، فالفاعل قام بذلك العمل المباح أصلاً لفقده الرادع الداخلي الذي يجعل علمه بقبح ذلك الفعل متأرجحاً بين القبول والرفض أما الممتنع فكان إمتناعه مستنداً إلى العلم اليقين الذي يجعله في مأمن عن ذلك الفعل.

وعلى كلا الطرفين تظهر لنا صورة مختلفة لكل منهما وتكون نهاية الصورتين في مشترك واحد يطلق عليه [الإختيار]، إذاً الإختيار أمر يلازم الإنسان ولا ينفك عنه سواء كان معصوماً أو غير معصوم.
إذا ثبت هذا نستطيع القول أن العصمة لابد أن تكون بإختيار الإنسان دون أن تفرض عليه أوتسلب منه بقهر قاهر.

من بعد هذه المقدمة نحتاج إلى معرفة أصل العصمة لغة.

عند مراجعتنا لبعض المعاجم اللغوية وجدنا أنهم جميعاً يعطون العصمة معنىً واحداً وهو المنع، وعصم بمعنى : منع، والقرآن الكريم يشهد لهذا المعنى أيضاً كما في قوله تعالى : (قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) هود 43. وكذلك قوله (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) المائدة 67.

أما إصطلاحاً فإن العلماء وإن إختلفوا في تعريفها إلا أنهم يجمعون على أنها [لطف الله تعالى بالعبد]، بحيث يمتنع منه وقوع المعصية وترك الطاعة مع القدرة على ذلك.
وكذلك لا يمكن أن تكون العصمة كسبية أو وراثية بل هي ناتجة من التقوى التي تكون راسخة لدى العبد إلى أن تصبح ملكة لا تنفك عنه، وهذا النوع من العصمة يكون جُنة بين العبد وبين الموبقات بحيث تصبح ملكاته النفسية متفرعة على علاقته بنفسه وبالآخرين الذين من حوله، وهذه العصمة تشمل الكثير من الناس بغض النظر عن أنهم أنبياء أو أولياء أو من عامة الناس.

فإن قيل : إذا كان الأمر كذلك فلماذا خص الله تعالى بعض أوليائه كالأنبياء مثلاً بالعصمة المطلقة؟ أقول : إن إفاضته تعالى للعصمة على من يستحقها لا بد أن يكون نتيجة القابل الذي يتمتع به الشخص الذي يقع عليه الإختيار، وهذا الإختيار لا يأتي عبثاً أو من فراغ، بمعنى أن تلك الإفاضة تكون بعلم مسبق منه تعالى على أن هذا الشخص لديه القابل الذي يجعله يمتلك ذلك الإستحقاق كنتيجة وجزاءً لما سلف من أعماله.

أي إنه تعالى يعلم مايكون من أمره بغض النظر عن العنوان اللاحق كالنبوة والإمامة وما إلى غير ذلك من العناوين ومن هنا يظهر أن العصمة الخاصة بالأنبياء لابد أن تكون واضحة في افعالهم لتطمئن لهم النفوس، لأن إبلاغ الرسالة لا يمكن أن يتخلله النقص والخطأ أو الإشتباه في نقل الشريعة عنه تعالى إلى المكلفين حتى تتحقق الغاية التي من أجلها كانت بعثة الأنبياء، لأنه في حالة إشتباه النبي في أمر معين فهنا لابد من تسرب الشك إلى قومه وبالتالي تفقد الرسالة الغاية التي جاء الأنبياء من أجلها، وعند ذلك يكون إرسال الرسل مشوباً بعدم الثقة لدى الأطراف المكلفة بالسير على نهجهم.

فإن قيل هذا يخالف بعض الآيات التي نسبت للأنبياء ترك الأولى فكيف الجمع بين الأمرين؟ أقول : إن العصمة أمر نسبي وكما قال العلماء فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، بتعبير آخر أن ما نسب للأنبياء لو صدر من إنسان آخر لكان أمر يثاب عليه ولنأخذ مثالاً واحداً فقط لنطلع على الفرق بين عمل الأنبياء وعامة الناس لننظر إلى خروج يونس من قومه بإتجاه البحر وهو في حالة المغاضبة التي أشار لها القرآن الكريم، ولو كان هذا الخروج لأحد العلماء من مجموعة من الناس الذين لا ينفع معهم النصح والوعظ لكان هذا الفعل يثاب عليه ذلك العالم ولا ينسب إليه ما نسب إلى يونس بسبب الفرق بين المكانتين.

لأن الذي سجله تعالى على يونس هو التسرع كما قال تعالى : (وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) الأنبياء 87. والمغاضبة [مفاعلة] يعني لابد أن تكون بين طرفين، فكان الغضب بينه وبين قومه وليس مع الله أو لله كما ذهب بعضهم وقوله [فظن أن لن نقدر عليه] يعني لن نضيق عليه، كما قال تعالى : (إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر)الإسراء 30. وقوله : (ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله) الطلاق 7.

فيكون المعنى : أنه ظن أن لا يضيق عليه أمر ترك القوم بل سيجد السبيل الأسلم لذلك، والظن هنا بمعنى اليقين وقد ورد بهذا المعنى في مواضع كثيرة من القرآن الكريم كقوله : (قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) البقرة 249. ومن أراد القصة كاملة فليراجع المطولات فلا يمكن ذكرها كاملة في مقال واحد.

ومن المفسرين من أراد أن يذهب بالآية إلى تأويلات خارجة عن الذوق العربي السليم لينفي كل ما ورد فيها بطريقة التأويل الذي يقصد به التنزيه الذي لا مبرر له، علماً أن هناك آيات كثيرة في أماكن متفرقة من القرآن الكريم تشير إلى أن يونس [عليه السلام] قد ترك الأولى بمعنى أن البقاء مع قومه هو الأولى ولهذا نجد القرآن الكريم يحذر النبي (ص) بأن يصبر لحكمه تعالى ولا يأخذ نفس الإتجاه الذي سلكه يونس كما قال تعالى : (واصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم) القلم 48.

وعدول القرآن الكريم عن إسمه الحقيقي إلى [صاحب الحوت] فيه عناية ولمحة قرآنية رائعة تدل على ان الفعل الذي صدر منه [عليه السلام] لا يناسب ذكره بالإسم في هذا الموضع، أما في حالة المدح نجد الإشارة إلى إسمه واضحة كما في قوله : (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين) يونس 98.

عبدالله بدر إسكندر المالكي
[email protected]