قبل الخوض في معمعة التآويل السياسية، اريد القول باني احب ان يعود العراق والعراقيين موحدين في ظل حكومة ديمقراطية مركزية واحدة غير طائفية ولا حزبية عنصرية تمثل كل المكونات من العرب والكرد والتركمان وبقية الأقليات الدينية والقومية وتسعى الى الحفاظ على حقوق الانسان والنهوض بالشعب العراقي الى مرحلة الشعوب المتقدمة والمتطورة، واود القول بان ما حصل للعراق على يد القوة الامريكية وحلفاءها، يمكن ان يحصل في اي دولة اخرى وبكل سهولة، لأن اميركا قادرة على كل شئ، باعتبارها المهيمن على سلطة القرار في الأمم المتحدة او مجلس الأمن، وبهذا المعنى فان اميركا احتلت موقع الصدارة والتحكم بمصائر الشعوب وانظمة حكمها بسبب قوتها العسكرية والاقتصادية، وان ما تريد تنفيذه سواء كان ذلك في بغداد او في كركوك او جورجيا او صربيا او حتى الصين فانها قادرة على تنفيذه، وآرابخا تلك المدينة التأريخية الأشورية والتي تدعى اليوم بكركوك واحدة من تلك المدن التي إذا ما ارادت اميركا نقلها من هذا المكان الى ذاك او ارادت تغيير ملامحها وثقافة اهلها الأصليين والحاليين، فانها قادرة وبكل سهولة للأسباب اعلاه.


اليوم يمر الوضع السياسي في العراق في مرحلة لا يمكن وصفها الا بمرحلة الفلتان والفوضى والجاهلية، فبعد ان انهالت عليه الطائفية والمذهبية والعنصرية بعد الحرب الغير شرعية والتي نتج عنها تقسيم العراقيين الى طوائف ومذاهب وقوميات متصارعة، وبعد ان عمت الفوضى فشملت كل العراق، وبعد ان اختلط الوطني الشريف بالمجرم الارهابي، وكما يقال فقد ضاع الأخضر باليابس، فقتل من قتل وهجر من هجر وما زال البعض من الطائفيين والعنصريين يخططون للنيل من وحدة العراق حيث يمارسون ابشع اساليب التهميش والتقسيم مستندين في ذلك على أساليب سياسية رخيصة حشروها في الدستور الذي وضع في ظروف غير طبيعية صوت عليه العراقيون بطريقة مشكوك في نزاهتها وقانونيتها، والمؤلم ان غالبية العراقيين على دراية من ان بعض الكتل العراقية المشاركة في الحكم قد ساهمت في حشر بنود تراعي مصالح كتلها دون النظر لمصالح كل العراقيين، حيث ان من يقرأ الدستور ستحصل له القناعة بان غالبية بنوده غير عادلة ولا تراعي حقوق العراقيين، بل ستعمق الفتن الطائفية والقومية والدينية بينهم.


ان العراق ومنذ تأسيسه لم يحظى بحكومة عادلة، ولم يوضع له دستور عادل ينظم حياة العراقيين، فكل حكومة جديدة تضع دستورا يخدم مصالحها وهذا هو سبب المتاعب التي لم يستطع شعب العراق تجاوزها الى هذا اليوم، فاليوم وبعد حرب 2003 والتي قادتها اميركا لإسقاط نظام صدام والتي توسعت لتدمير كامل للدولة العراقية فحُلت جميع مؤسساتها المدنية والعسكرية، مما ادى الى فوضى استدعت الى اعادة بناء الدولة من جديد، فاسرعت اميركا الى تنصيب حكومة موالية لها لسد الفراغ والإسراع وباي شكل كان في وضع دستور كانت غالبية بنوده قد بنيت على اساس التقسيم الطائفي والقومي وفق محاصصة سميت توافقية،لا بل وتعدى ذلك الى حشر بنود هدامة كقنابل مؤقتة مهيأ لتقسيم العراق الى مناطق او محافظات شيعية واخرى سنية وكردية وعربية واشورية وغيرها وفي اي لحظة..وكأننا نعيش نفس الأوضاع والسياسات التي كانت سائدة ايام حكم نظام صدام حيث ان الحكومة الحالية ودستورها لا يختلفان عن حكومة ودستور النظام السابق، والنأخذ على سبيل المثال قضية كركوك، ولست هنا بصدد عائدية كركوك وكأنها ارض غير عراقية، ولكني ساسلط الضوء عنها وما كتب عنها...هل يعلم من يعنيه الأمر ان مدينة كركوك الحالية كانت تقع على أطلال المدينة الآشورية القديمة { ارابخا عرفة } حيث يقدر عمرها بحوالي 5000 سنة قبل الميلاد، وبسبب أهمية موقعها الجغرافي بين أمبراطوريات البابليين والأشوريين والميديين شهدت كركوك معارك عديدة بين تلك الأمبراطوريات المتصارعة والتي بسطت سيطرتها عليها في فترات تاريخية متباينة، ولم يكن للأكراد ولا للتركمان ولا لأي مكون عراقي آخر اي تواجد فيها آنذاك، فالأشوريون لم يطالبوا بكركوك حتى هذا اليوم لا بل لم يشعروا العراقيين عبر ممثليهم في البرلمان العراقي او البرلمان الكردستاني من انهم سيطالبون بكركوك لانهم سكانها الأصليون، فكيف اذن بالكرد او غيرهم من الذين سكنوها لاحقا ويدعون بعائديتها لهم، على الجميع الإقتداء بسلوك الأشوريين وسقف مطاليبهم التي لا تتعدى الحكم الذاتي بالرغم من تحفظ البعض حول جهة المطالبة منها، واريد ان اضيف للمعنيين ايضا بان الوثائق التأريخية العالمية تقول بان كل العراق وبعض من اراضي دول جواره كانت تحكمه الأمبراطورية الأشورية وكانت نينوى الحالية عاصمة لها، وان ساكني العراق الأوائل هم البابليون والأشوريون، فهل معنى ذلك ان يستغل الشعب الأشوري الوضع القائم والمنفلت في العراق ليطالب بالعراق كله لأن العراق كان دولته الأشورية التأريخية، لقد اثبت الأشوريون
والبابليون بانهم اوفياء للعراق والإنسانية من خلال ايمانهم بالتطور الإنساني والحظاري للشعوب، لقد استحق الأشوريون ان يوصفوا بالشعب التأريخي المتحظر!


اما عن تسميتها فهناك آراء كثيرة ومتعددة عن أصل تسميتها ولن اخوض فيها لأن التأريخ كما قلت سابقا يقول ان عائديتها هي آشورية، ولكني ساستند الى احدى الوثائق التأريخية والتي تنص على إن تسمية كركوك جاءت من الكلمة التي إستخدمها الاشوريون {كرخاد بيت سلوخ } التي تعني المدينة المحصنة بجدار، هذا بالنسبة لتسميتها القديمة، واذا اراد احد ان يلصق اسمها بغير الأشوريين فان ذلك غير جائز، لأن كركوك لم يكن فيها اي تواجد قومي غير القوم الذي سماها { كرخاد بيت سلوخ } وهم الأشوريون، فالتواجد الكردي او التركماني او العربي او غيره جاء لاحقا اي بعد ظهور الأديان في المنطقة وظهور النفط!


اما التواجد الكردي المعاصر في مدينة كركوك فبالإضافة الى انه بدء بعد دخول الإسلام الى المنطقة، فقد جاء ايضا نتيجة لظروف اقتصادية واهمها ظهور النفط فيها، حيث استقبطت مدينة كركوك مجاميع محدودة من الأكراد وغيرهم للعمل في منشأتها وقد توسعت هذه المجاميع لتصبح عوائل كبيرة فاستقرت فيها الى ان قام نظام صدام بضخ اعداد من العرب وبعض من المكونات الأخرى وفق سياسة منظمة عرفت بسياسة التعريب، وهذا ما جعلها ولم تزل موضع خلاف وجدل حول عرقية المدينة التأريخية الموغلة بالقدم، لكن الأمر لم يكن قاصرا على نظام صدام في تعريب المدينة، انما جاءنا هذه المرة من قبل حكومة كردستان التي حاولت هي الأخرى تكريد كركوك من خلال ضخ اعداد كبيرة من الأخوة البسطاء من الكرد مدعية انها تعيد الذين هجرهم صدام، ولكن الأمر لم يكن بهذا الحجم بالرغم من ان نظام صدام حاول زيادة الساكنين العرب وغيرهم بغية اقامة استفتاء ليفوز العرب بالأغلبية وهذا ما لا يرضاه اي عراقي شريف، اعود فاذكر من يعتقد ان كركوك ملك لهذا الطرف او ذاك وان معالجة ازمتها لا تحل الا بزيادة عدد هذا المكون او ذاك فانه خاطئ، فكركوك هي مدينة الأشوريين ان اردنا قول الحقيقة، حيث ما زال قسم من احفادهم يسكنونها، ولكن وحسب التطور البشري والزمني فانها اليوم مدينة عراقية وبامتياز، وهذا ما يردده الأشوريون ابناء العراق الأصليين، ان تغيير ثقافة الشعوب او المس بملامح مدنهم اجراء غير اخلاقي ولا انساني، ولا ادري كيف لا تتدخل هيئة الأمم المتحدة ومنظمة حقوق الإنسان للحفاظ على ارث وثقافة الشعوب القديمة؟


ان كركوك اليوم يقطنها مزيج متجانس من قوميات مختلفة من الاكراد والعرب والتركمان والآشوريين والكلدان والارمن والصابئة والإيزيديين وغيرهم، لكن المخيف ان هذه القوميات باتت كل واحدة منها تدعي باحقيتها بكركوك وكأن كركوك هي ليست مدينة عراقية.. تابعوا معي ذلك.. فالتركمان يعتبرون انهم قد استوطنوا كركوك منذ حكم السلاجقة حيث دخلوا العراق سنة 1055 عندما قدم قائدهم طغرل بك على راس جيش مكون من قبائل الاوغوز التركية و حكموا العراق لفترة 63 سنة، وفي كتاب المؤرخ العراقي عبدالرزاق الحسني فان الحسني يعتبر بان { تركمان العراق جزءا من جيش السلطان العثماني مراد الرابع الذي احتل العراق بعد طرد الصفويين منها عام 1638 حيث ابقى على بعض من جنوده بالعراق لحماية الطرق بين الولايات العثمانية }..ونسوا تأريخ قبل سبعة الاف سنة!


اما العرب فكانت هناك عشيرتين رئيسيتين تسكن منطقة كركوك، وهما عشيرة التكريتي و عشيرة العبيد حيث قدمت عشيرة التكريتي إلى منطقة كركوك من سوريا في القرن السادس عشر مع السلطان العثماني مراد الرابع الذي كافئهم على ولائهم للعثمانيين باعطائهم اراضي و قرى في الجنوب الغربي لمدينة كركوك بالاضافة إلى مدينة تكريت الحالية، اما العشيرة الثانية فهي عشيرة العبيد وتليها عشيرة الجبور، وهي عشائر استوطنت كركوك اثناء العهد الملكي في العراق، ولا يفوتني ان اذكر بان عشائر العبيد و الجبور قدمتا الى كركوك من الموصل بعد خلافات مع عشائر اخرى واستقروا في منطقة الحويجة عام 1935 اثناء حكومة ياسين الهاشمي.. ونسوا تأريخ قبل سبعة الاف سنة!


لقد كانت كركوك الحديثة ولسنوات طويلة بمثابة البوتقة التي انصهرت فيها مختلف القوميات والأديان لكن الامر اصبح شائكا بعد الاطاحة بنظام صدام حسين حيث تسعى القوميات المختلفة في كركوك لاثبات حقوقها التاريخية، فالاكراد يحاولون الحاق كركوك بكيان إقليم كردستان في شمال العراق بينما يحاول التركمان و العرب ابقاء كركوك ضمن الحكومة المركزية في بغداد، وهناك الكلدان والأشوريين والسريان الذين اصبحوا بين فكي كماشة حيث يخافون على مستقبلهم في المنطقة فتقدموا ايضا بطلب تحقيق حقوقهم القومية هم كذلك اصبحت لديهم الفرصة للمطالبة بحقوقهم القومية في اماكن سكناهم، ولكن هل هذا هم المهم ام المهم الإستقرار والحياة الهادئة بسلام، ان استقرار العراق سوف لن يتحقق ما دام هناك عدم الثقة بين الأحزاب والكتل السياسية الحاكمة وما دام هناك من يطالب بتقطيع ارض العراق وتمزيق شعبه، لا بل اني ارى بان العواقب وخيمة اذا بقي حال العراق ودستوره بهذا الشكل وسيبقى الخلاف قائما.


اتسائل....هل سيفقد الأكراد او العرب... او اي قوم آخر يسكن العراق..هويته القومية او معتقده الديني، اذا ما اعتبرت كركوك مدينة عراقية كما هي البصرة والموصل والعمارة واربيل... فلماذا التعنت اذن، لماذا يحاول البعض سرقة التآلف والمحبة من قلوب العراقيين !، اليس الأجدر بنا ونحن في عصر العلوم ان نتحد لنبني وطننا ونخدم شعبنا، ثم أسئل قادة الكرد والعرب وغيرهم من قادة القوميات الأخرى..هل الدول الأوربية تقسمت ام توحدت؟ هل الولايات المتحدة الأمريكية اتحدت ام تفرقت؟...ماذا سيخسر الأكراد اذا بقيت كركوك كما هي عراقية تنعم بالأمن والأمان والخيرات بجميع ساكنيها من مختلف المكونات وهم القائلين ليل نهار نحن عراقيون يا ناس نحن عراقيون.

ان الشعب العراقي لم تحكمه عقول نيرة لتقوده نحو التقدم والحرية والإزدهار منذ تأسست دولة العراق، انما حكمته عقول كانت في غالبيتها منحازة اما لطائفة او لقومية او لدين معين، ولذلك بقي متخلفا عن ركب المدنية، كما ان غالبية هذه العقول اعتمدت على التدخل الأجنبي والذي حتما سيفضل مصالحه على مصالح العراقيين، وما حدث في العراق من تقسيم ومحاصصة خير دليل، فالتدخل الأجنبي والذي بدأه بريمر بحجة ترتيب البيت العراقي كان له الأثر الكبير في تمزيق البيت العراقي لا ترتيبه، حيث اشرف السيد بول بريمر على أول انتخابات بلدية في مدينة كركوك في 24 مايو 2003 لأختيار مجلس بلدية المحافظة وقد اختارت القيادة الأمريكية حينها 300 مندوب عن الأكراد والعرب والتركمان والآشوريين وتم اختيار من بينهم مجلس المدينة المكون من 30 عضوا، وقد اعتبرت هذه الخطوة لتخفيف حدة التوتر العرقي السائد في المدينة كما قيل، ولكن ما وراء ذلك لا يعلمه الا الله.، ثم قررت القوات الأمريكية منح الطوائف الأربع نفس عدد المقاعد داخل المجلس الجديد، فتشكل المجلس من ثلاثين عضوا، أنتخب أربعة وعشرون منهم بمعدل ستة مقاعد لكل طائفة، كما عين الأمريكان ستة أعضاء quot;مستقلينquot;، { ولكن اليدري يدري والما يدري كضبة عدس }

فالعراق وشعبه بحاجة الى حاكم يؤمن بان الوطن ليس ملكاً لطائفة ولا لقوم ولا لدين معين، انما الوطن وثرواته ملكاً للجميع، ومحافظة كركوك العراقية يجب ان تبقى رمزا للسلام والأخوة ان كنا نبغي السلام، وان من يعتقد بانها تابعة لأحد في الشرق او الغرب، فانه على خطأ، وان التلميح باحتلالها او احتلال اي جزء من ارض العراق سيعرض وطنه الى كارثة جديدة عاقبتها دمار وقتل ليس له نهاية وسيكون هو الأول الذي سينكوي بنارها، وان الذين يعتقدون في داخل العراق انهم يستطيعون فرض مطالبيهم من خلال الإستناد الى بنود في الدستور والتي في غلبيتها مشكوك في قانونيتها وشرعيتها، فانه خاطئ، وباختصار نقول بان من يطالب بتقسيم العراق بالطريقة البهلوانية الدستورية العراقية فهو ليس عراقيا، لأن العراقي الأصيل يعتبر ان كل محافظات العراق هي مدنه، وان كل مكونات شعب العراق هم اهله واقرباءه، ان العراقي الأصيل يهمه سلامة كل العراقيين مسيحيين ومسلمين صابئة وايزيديين وغيرهم، وبعكسه...سيُعتبر غير عراقي!

ادورد ميرزا
استاذ جامعي مستقل