أطالب بتسمية أحد شوارع بغداد بأسم المفكر كامل شياع

ما زلت يا كامل كما عرفتني، أرتب صباحاتي وأنفض عنهن ثقل أرق الليالي وتراب الجادات، العمر والمنفى وقمر بغداد مع صورك القديمة، حشرتهما في علبة السكر، وقبل أن أغلقها، لم أنسى أن أوضبهن وأغطيهن بأخر ضحكاتنا في شارع الرشيد.. ماذا سأقول عن مقتلك، والفجر الذي زيناه سوية، زف مدمى بضناه، مسروج فوق ظهور خيول هرمة، متباطئة، تنزل به مكتفا نحو الهضبات.. لماذا تغلق جفنيك وأنا أحدثك عن قوافل تاهت في زخم أمطار لها مذاق الخبز المحروق في تنانير الطين؟ أين سماءك ياكامل؟ ورقم الدار، أتوسلك أن تخبرني عن مأواك. ماذا يعني خطيئة؟ وهل فعلا يبدأ الطريق الطويل بخطوة؟ من هو البيدق؟ وهل له حرية الأحتجاج؟ هل تعرف أن الحنين رغم شيخوخته فينا، سيبقى شيئا ملهما وجديدا، تماما مثل هذه السماء التي أشاهدها الآن، وقد غسلتها الأمطار، لتبدو كما هي، صبية عذراء، صافية وقريبة من رؤوس الأعشاب المحتشدة في حديقة منزل صديقنا quot;موسى الخميسيquot;. أنا الآن في إيطاليا برفقة صغيراتي، كما ترى، وأنت قتلك الأوغاد. لقد وشموا قلبي بالوجع، ورغم ذلك تجدني مضطرا لتحضير الفطور لأطفالي. سأعود صباح الغد إلى منفاي الباريسي، لا أعرف ماذا أقول، ثمة غيمة في الحائط، وبقايا رقي وفنجان قهوة على طاولة مركونة تحت ظل شجرة توسطت الحديقة، كم أنتظرتك أن تفتح باب الصباح، كأنك تعود، تمد يدك إلى سلة الخبز، وتبقى برهة ساكتا تتطلع من النافذة، كما كنت تفعل ذلك بغرفتي البسيطة في باريس، بعدها تستدير، تحتسي قهوتك الباردة واقفا، تدخن ثم تبتسم، وتبدأ تحدثني عن الصبر كفلسفة في الحياة، والتفاءل بمواجهة عبثها.. والفرج؟ أين الفرج الذي كنت تواجه به شكواي وشكوكي من العمل مع العصابات البعثية؟ وماذا بقى من حياتنا التي صلبوها بين قوسين؟ لإنقاذ ذكرياتنا المشتركة من التلف، سأفزع كل أحاسيسي، أشيائي المتأخرة أيضا، وحديثنا فوق الأرصفة، لاسيما حديث الأرصفة.


أخبرتك مرارا، بأني لا أتوق كلمة quot;شهيدquot;، أمقتها ولا أتحملها، لأنها تعكس صورة ضعفي لمواجهة الأوغاد بنفس أسلحتهم الفتاكة، كنت تقول ليس كل البعثيين سواسية، لم أصدقك! كم تمنيت أن تكون على حق، أنظر ماذا فعلوا بك وبنا يا كامل! الأوغاد لم يتركوا لي اليوم منك سوى كلمة quot;شهيدquot;، هذه الكلمة الخائبة، التي لا تكحل سوى قهر المستضعفين والإنسانيين، أنا الغريب في منفاي سأبقى أناديك بأسمك وأبكي. لم تكن على معرفة بهم يا كامل، أنظر كيف غدروا بك ولم يمهلوك وقتا كي تودع ولدك الوحيد الذي ينتظر رؤيتك منذ العام الماضي. وهل أمهل البعثيين العراق يوما فرصة للتنفس لكي يمهلوك أنت تقبيل ولدك؟ من سيملأ تركتك الأخيرة على الوعي والفكر العراقي؟ لا تنتظر من الجبناء وأصحاب المصالح الذاتية أن يفعلوا لك شيئا. وحدهم الطيبيين سيتذكروك.
كنت لي صديقا، عاشرته ثمة بكيت فراق منفاه في وطنه، لقد مر الزمن سريعا، ولم ترفع يوما صوتك على محدثك، كنت تخلد طويلا للتفكير والتأمل، تحترم quot;الأخرquot; وكنت تحب العراق. آه يا كامل كيف داهمك الأوغاد؟ بماذا كنت تفكر يا ترى؟ فجأة هكذا، أخذت تشعر بالدم يسيل، قميصك الأبيض تثقب فجأة، صار أحمرا، رغم ذلك لم يتوقف القتلة، لقد أستفحل عمري وهرم بغتة بيوم مقتلك، ولم يعد لي فعلا وطننا، فما نفعي بوطن تكون فيه الثقافة غائبة والعقل لا يستنير.

ملاحم المواجهات الفكرية للأديب والمثقف الواعي تكون في قمتها حينما يواجه بها فاشيين أمته وعقائدها البالية، ويتحدى التخلف ونفاق مثقفيها المحترفين وأعلامهم التخديري المماطل مع الحقائق، ويعري من ينصب نفسه [مقاوما للعدو] لكنه بحقيقة الأمر أختار الأجرام لكونه فاشل بالحياة، وبما أنه بلا مهنة فقد أختار [حرفة المقاومة] لكي يعيش من هدر دماء الأبرياء. ملاحمه أن لا يصطف مع القتلة وينظر لجرائمهم وتحت ذرائع وطنية مزيفة. ملزما عليه quot;أخلاقياquot; بغربلة هذه العوالم [التبجح والكذب العروبي والديني] وتحليلها على أساس أنها من ضمن المسببات الرئيسية في بسط التخلف وزرع الجريمة والرضى على الأكاذيب العقائدية التي تنخر في عقلية المواطن العربي، هذا المواطن المخدوع بالشعارات الرنانة، الذي لم يتعلم في المدارس والجوامع سوى العداء للأجنبي، والخنوع للقائد والمرجع الديني في مواجهة مصاعب ومشاغل حياته.


هناك سرطانا سلوكيا إسلاميا بعثيا قوميا فاشيا متجذرا في الثقافة العراقية والعربية: شعرا ونثرا وإبداعا، وأن عدم محاربة هذا السلوك واستأصاله من بدن الثقافة والفكر سيجعل مجتمعاتنا ليس فقط متخلفة حضاريا كما هو الحال اليوم، وأنما جوفاء وبلهاء عنصرية ومضحكة مقارنة بحضارات الأمم.

والسؤال هو من سيعيد الحياة للثقافة العراقية التي حاول حزب البعث أغتيالها على مدى 35 عاما ونيف، ولا يزال، بينما نحن نحصي سقوط مفكرينا المتنورين يوميا؟

لا أعتقد أن عودة الشهيد كامل شياع من منفاه لتنشيط وزارة الثقافة العراقية بعد هزيمة الدكتاتورية الفاشية بالعراق قد غير الشيء الكثير. ولأسباب عدة، أولها أن السيد مفيد الجزائري كان توفيقيا مع الموظفيين البعثيين ولم يكن صاحب القرار كوزير لقلب المعادلة البعثية بالوزارة وتغيير طاقمها، ولم يتمكن حتى بالتقليل من ثقل وحجم الوجود البعثي الفاشي الذي بقى يراوح بين الخروج من باب الوزارة ليعود إليها من شبابيكها. غادر السيد مفيد الجزائري، وبقى الشهيد كامل يعمل وسط ثلة من البعثيين والطائفيين والأرهابيين والقتلة مثال الشرطي المطرود نوري الراوي، والأرهابي المحترف اسعد الهاشمي والطائفيين الكارثيين جابر الجابري وماهر الحديثي، ناهيك إلى زمر من السرسرية البعثيين، من مدراء ورؤوس أقسام وحراس حمايات كانوا يترصدون شهيدنا ويحصون خطواته ويطوقون حركته، فلم يتمكن كامل من تطوير هذه الوزارة سوى بالمجاملات والأبتسامات والأخوة العراقية المزيفة.. لا شك أبدا، بأن من أغتال كامل هم من البعثيين المحترفين والمتمرسين بالجريمة وهم حتما من طاقم وزارة الثقافة العراقية نفسها، أن مقتل كامل شياع كان مخططا له أما من داخل العراق أو من خارجه لكن الأيداي بعثية.. لأنه لم يقتل صدفة، لم يخطف، لم يمت فوق سريرا في مستشفى، لم يتطاير جسده بسبب سيارة مفخخة.. لذلك، يجب على رئيس الوزراء السيد نوري المالكي وعلى الحكومة العراقية وعلى السيد رئيس الجمهورية العراقية وبرلمانها بأطلاق أسم كامل شياع على أحد شوارع بغداد أو ساحاتها مع نبذة عن حياته وتاريخ يوم الفاجعة الذي سقط فيه.


لن يفهم القتلة لغة الوعي الحضاري، وعلى النظام الجديد مواجهتهم بنفس أدواتهم، لأنه من العبث مطالبة البعثي الفاشي بالتروي وأختيار لغة الحوار بديلا عن لغة العنف، ولذلك، يجب إيصال رسالة للقتلة والفاشيين في العراق من إسلاميين وبعثيين، مفادها: كلما إغتلتم حبيبا منا ستخلده ذاكرة الثقافة العراقية الوطنية والأماكن والساحات، وستسمركم الأجيال المثقفة القادمة كل منكم في كفنه وستعم عليكم لعنة العراقيين مدى العمر!

كامل شياع، خلي، سوف لن أنساك...


صلاح الحمداني