عندما وصل السياسيون في لبنان إلى حائط مسدود، وتركوا لأنصارهم حرية الاقتتال في الشوارع، وصار لبنان مسرحاً لعروض مليشيوية أودت بما تراكم من جهود تنموية على صعيد تعزيز السلم الأهلي والمواطنة.. عندها، لم يبق في الميدان المحايد الإيجابي إلا منظمات المجتمع المدني اللبناني وبعض المغيبين عن التمثيل. هذه المنظمات المدنية غير الحكومية، وغير المرتهنة لفكر هذا الزعيم أوذاك، لحاشية هذا الزعيم أو ذاك وخياراته الضيقة المصالح.

لكن منظمات المجتمع المدني اللبناني البعيدة عن الإطار الطائفي المذهبي المناطقي قليلة فعلاً نسبة إلى مفهوم الجمعيات الفضفاض. فما الذي يمكن أن تحققه هذه المنظمات المدنية؟ وهل يمكنها أن تحقق تقدماً على مستوى تعزيز السلم الأهلي اللبناني في ظل ظروف انقسامية يؤسس لها فكر سياسي مرتهن للخارج القريب والبعيد؟ هل يمكنها أن تلعب دوراً في إعادة تأسيس أدبيات السياسة اللبنانية اليومية بعيداً عن لغة التشنج والتخوين والخطاب الطائفي البغيض؟ هل يمكنها أن تعزز مفهوم الوطن والمواطن وصولاً إلى المواطنية، وتساعد في بث الوعي المطلوب لدى السواد الأعظم من اللبنانيين نحو الانتماء إلى بعضهم بعضاً وبالتالي إلى وطنهم الذي يضيع في الرهانات السياسية على أيدي ساسة يبدو أنهم ما أحبو وطنهم يوماً؟


يبدو للوهلة الأولى أن هذه المنظمات المدنية تحتاج إلى قواعد شعبية، فمفهوم العمل التطوعي في لبنان، ومناصرة القضايا الاجتماعية هو في ضمور نتيجة الضائقة الاقتصادية المعيشية التي يعيشها لبنان منذ زمن طويل، وهي تزداد حدة يوماً بعد يوم. أما القضايا الاجتماعية الملحة التي يمكن أن تحشد مناصرين طوعيين لها، كونها تشكل قضية الفرد والجماعة، فهي قضايا المرأة والطفل والبيئة والشباب والإعاقة، ولها بطبيعة الحال مناصرين، وهم على معرفة كافية بقضاياهم، ومن الممكن أن تشكل في حال تضافر الجهود، وإعادة التشبيك بين المنظمات التي تتبناها عنصر ضغط على السياسات الحكومية، التي تكون عادة متخلفة عن الالتحاق بركب التطور، إن على صعيد التشريعات، أو على صعيد التطبيق. كما يمكن القول إن التجربة أثبتت على صعيد قضايا الإعاقة والشباب أن مناصري هاتين القضيتين من المنتمين إلى منظمات مدنية لا طائفية ما يزالون يراهنون على إمكانية التغيير السلمي والضغط على السلطات التنفيذية في لبنان للوصول إلى تطبيق عادل للتشريعات المحلية والدولية، وبالتالي الوصول إلى نسبة ما من العدالة الاجتماعية. من ناحية أخرى، يبدو أن الساسة يعيدون إنتاج السلطة على نفس المسار المصالحي الضيق، من خلال استنباش قانون انتخاب عفا عنه الزمن يعيدنا ستين عاما إلى الوراء، نحو التمثيل الطائفي الأضيق، نحو خطاب متشنج يؤسس لحرب أهلية جديدة في أحسن الظروف والأحول. فمن غير المنتظر من الطبقة السياسية الحاكمة، سواء في الأكثرية النيابية أو الأقلية الحاليتين، هذه الطبقة التي جربت واختبرت في مناسبات عديدة، من غير المنتظر أو المتوقع منها أن تعمل بشكل جاد على إلغاء الطائفية السياسية، وأن تسعى ولو بشكل نسبي إلى تعزيز السلم الأهلي وتعزيز فكر المواطنية لدى المواطنين اللبنانيين.


إن ذلك يقودنا إلى سؤال محوري: هل بإمكانية تلك المنظمات المدنية أن تلعب دوراً حقيقياً في التأسيس للبنان الدولة، لا لبنان الطائفة أو المزرعة أو الخدمات الانتخابية؟ يشير الواقع، إلى أن هذه المنظمات التي هي بمعظمها منظمات لا قواعد شعبية لها، إنما تبتني هيكلياتها على جهود بعض المثقفين المدنيين والمتفوهين، تعيش علاقة جدلية quot;غريبةquot; بين دولة تأبى تطوير مفاهيمها لتصل إلى مستوى المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان وعلى رأسها شرعة حقوق الإنسان، سواء على صعيد السلطة التشريعية فيها أو التنفيذية، ويظهر ذلك جلياً في الاستخفاف المقصود بكافة الحقوق المشروعة للمواطنين وعلى رأسها الحقوق المعيشية للطبقات الفقيرة التي تتسع يوماً بعد يوم، هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى تبقى هذه المنظمات رهينة لغة المشاريع. وما ادراكما لغة المشاريع، تلك اللغة التي لم يعد يفهم سواها quot;الشريك الأجنبيquot;، أي الممول، وهو إما أن يكون منظمة أجنبية غير ربحية، أو وكالة أممية، ولم يعد مقبولاً سواها لغة وفق مصطلحات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والوكالات الدولية التابعة للأمم المتحدة، التي هي على تماس مباشر مع أدوات السلطة التنفيذية اللبنانية من جهة ومع هذه المنظمات من جهة أخرى. ولا يخفى أن هذه العلاقة الغريبة بين المنظمات والشريك الأجنبي والسلطة التنفيذية المتخلفة تحد من الحركة المطلبية الحقوقية لهذه المنظمات بشكل نسبي، حتى أن هذه الحركة لدى بعض المنظمات تكاد تصل إلى الصفر، فيما تسعى المنظمات جاهدة لتلبية رغبات quot;الشريكquot; وفق تفاصيل المشاريع الإدارية واللوجستية والمالية والاستهدافية، التي قد لا تتماشى مع الواقع المحلي في كثير من الأحوال. لكن هذه المشاريع الممولة، باتت بالضرورة المصل الوحيد الذي يمد هذه المنظمات بالحياة والاستمرارية، في ظل غياب تمويلات ذاتية أخرى غير مرتبطة بجداول استحقاقات في أغلب الأحيان.


إذن، يمكن لمنظمات المجتمع المدني اللبناني، على الرغم من كل الظروف الموضوعية التي تحد من قدراتهان وتحاول إبعادها عن الرسالة الأولى التي قد تكون هذه المنظمات انطلقت على أساسها للعمل على حركة مطلبية حقوقية توصل إلى نسبة ما من تطبيق التشريعات المحلية أو الدولية بما يخص قضية اجتماعية محددة. يمكن أن تتحرك هذه المنظمات مجتمعة مع بعضها البعض، خارج إطار المشاريع مؤسسة لتشبيك طويل الأمد في ائتلافات موسعة بينها نحو إعادة صياغة مفهوم العمل الجمعياتي، وفق مبادئ مدنية تسعى إلى تعزيز السلم الأهلي والمواطنة.


لا بد أن الأيام القادمة ستشهد تحركات على هذا الصعيد، وذلك بعد الخروقات النوعية التي عملت عليها منظمات منفردة، وأفراد وناشطين في ميادين عدة، وعلى راسها الحقوقي، ومن هذه الخروقات على سبيل المثال حملات مدنية لا عنفية، منها حملة حقي، حملة لا للحرب، حملة خلص، وحملة وحدتنا خلاصنا، ومسير الربيع الذي جاب فيه بعض الشباب أرجاء لبنان كافة من قرية إلى قرية حاملين شعا quot;لبنان إلنا كلناquot;، منها كذلك على صعيد السياسات حضور ممثلين عن المجتمع المدني اللبناني لجلسة منح الحكومة الثقة بصفة مراقب. ويمكن كذلك أن يلعب العهد الجديد في لبنان، دوراً مسهلاً لعمل هذه المنظمات، لكن لا يخفى أن العبء الأكبر يقع على هذه المنظمات في عملية التشبيك وتفعيل الائتلافات، والقدرة على الابتعاد اليومي والمستمر عن أي ارتهان لجهة أو فئة أو زعيم.


عماد الدين رائف