كثيرون في العالم، حتى العراقيون أيام الحصار الطويلة، قرأوا وأعجبوا براوية الكاتب الكولمبي جابرييل غارسيا ماركيز (الحب في زمن الكوليرا)، والتي تدور حول عاشقين فرقت بينها ظروف قاهرة في شبابهما ولم يلتقيا إلا وهما عجوزين،وقد اتخذا مكاناً لخلواتهما السعيدة الأخيرة سفينة تبحر بين الأمواج رافعة راية إصابتها بالكوليرا للخلاص من الرسو والتفتيش وأعين الرقباء،بذلك جعل هذا الكاتب العبقري من الكوليرا القاسية ستارة للحب! لكن عبقرية القادة الكرد تفتقت هذه الأيام عن شيء آخر فجعلت من الكوليرا في الحلة والكوليرا السياسية بين الأحزاب والجماعات المتصارعة في بغداد والعراق ستارة للكراهية ولشرور تبدأ ولا تنتهي!


فقد صار من الواضح تماماً أنهم فرحون بمآسي العراق ومصائبه أكثر من فرح القطة بعمى أهلها،فهذا العراق المنهك الجريح الذي ينزف دماً ودموعاً هو الضحية المناسبة التي ينبغي أن تنهال عليها سكاكينهم الطويلة لالتهامها وعلى نار حامية!


وصارت أربيل والسليمانية كل يوم تصدر مشكلة لبغداد وأهل العراق، فمرة مشكلة كركوك، والمادة 140 وقانون الانتخابات، ومرة مشكلة نهب آبار النفط،ومرة مشكلة ما أسموها بالأراضي المتنازع عليها،ومرة حصتهم الهائلة والابتزازية من ميزانية الدولة،ومرة مشكلة دخول الجيش العراقي مدينة خانقين، وأخيراً اعتراضهم على شراء الجيش العراقي لطائرات أو صواريخ، ولا نستغرب إذا اعترضوا غداً على إنجاب العراقيين لأبناء ذكور بحجة أنهم سيتحولون غداً إلى جنود، ويقفون بوجه حملاتهم في توسيع أراضي دولتهم المقبلة! وحتماً ستتوالى اعتراضاتهم على كل شيء يفعله العراقيون غداً لأنه بالضرورة سيتعارض مع شيء ما لديهم، ما داموا قد وضعوا أنفسهم في تعارض وتضاد مع العراق، لا في تواز وانسجام ووحدة معه كدولة فيدرالية للجميع!


ولن نستغرب أبداً إذا خرج علينا غداً مسؤول في حكومة كردستان أو برلمانها ليعلن اعتراضه على عمل الحكومة لإصلاح معمل الألبان في أبي غريب، لأنه يؤثر على إنتاج وتوزيع لبن أربيل! قضايا مضحكة، وشر البلية ما يضحك!


كيف يطالبون الحكومة بالتصدي للاختراقات التركية للحدود والتي شوفينيتهم هي السبب في حصولها، ثم يعترضون على امتلاك الجيش العراقي لطائرات مقاتلة؟ كيف يحسبونها مرة ساخنة ومرة باردة؟ ما هذا التخبط؟
هل سألهم أحد حتى اليوم عما استولوا عليه من دبابات ومصفحات ومدافع الجيش العراقي بعد حله اثر سقوط النظام وقد امتلأت سفوح ووديان كردستان بدباباته ومصفحاته بينما الجيش العراقي اليوم بأمس الحاجة لتلك الدروع والأسلحة؟
إلى متى يظلون يحولون القضية الكردية إلى خنجر في خاصرة العراق؟


لم يلق الكرد كشعب طيب في أية دولة في المنطقة محبة واحتراما وحقوقاً متكافئة كما لقيه في العراق كشعب طيب لا كحكومة كانت في عهد صدام ضد الشعب كله بعربه وكرده وتركمانه وكافة مكوناته! فلماذا قادة الكرد يجازون هذا الشعب المحب للكرد بكل هذا الحقد والضغينة والجشع غير مقدرين ظروفه الأليمة والتي تقتضي التوجه للئم جراحاته وترميم حياته المحطمة وبناء العراق كله من أعلى جبل في كردستان إلى أرض الأهوار المنكوبة على الدوام بفقرها وعوزها وعزلتها؟ ألا يرون أبناء الجنوب والوسط والغرب وهم يئنون تحت وطأة الفقر والمرض والمواد المشعة والمياه الملوثة بالكوليرا والتدخلات الإيرانية لتمزيقهم والاستحواذ على أرضهم وثرواتهم ومستقبلهم؟


ألا يشعرون نحو العراق بالمسؤولية كإطار للوحة الألوان المتعددة التي ينبغي أن تكون نظيفة زاهية؟
لماذا هم قساة لا مبالون إلى هذا الحد؟ والكرد كما عرفتهم أصدقاء وزملاء كانوا بمنتهى الطيبة والنبل واللطف؟ لماذا؟من الواضح أن القيادة الكردية تعيش في هذه الأيام حالة فصام كاملة عن الواقع، وهي الآن أخذت تسرب عقدة الاضطهاد القديمة التي عانى منها طويلاً مصطفى البرزاني وأذاق منها العراق الويلات والنكبات والخراب وخلفها لأبنائة الذين سربوها كوباء الكوليراً أيضاً لقطاعات واسعة في الشعب الكردي،وجعلوهم ينظرون للعرب والتركمان والآشورين نظرة كراهية وشك وتربص وامتثال لقاعدة رهيبة: أن تغدوا بهم قبل أن يتعشوا بكم،وخذوا منهم ما استطعتم طالما هم في ضعف وتشتت!


لا أريد أن أمضي بتحليلات واستنتاجات قد تطول وسأكتفي بتوجه أسئلة أراها أساسية :
هل سبب ذلك هو رخاوة الحكومة التي يشكل فيها البرزانيون والطلبانيون ثقلاً كبيراً؟
هل هو تواطؤ واتفاق عبد العزيز الحكيم ورهطه مع القيادة الكردية على اقتسام العراق ملكية بالطابو لهم،فيهب الحكيم لهم ما لا يملك: كركوك، مقابل أن يهب قادة الكرد له مالا يملكون: جنوب العراق وثروته: ليحكمه في ظل إيران وولاية الفقيه؟
هل هو تواطؤ،وضوء أخضر،أمريكيين لجعل كردستان ورقة بيد أمريكا تضغط بها على تركيا وعلى إيران والعراق وحتى الكرد أنفسهم في سياسة خاطئة ضيقة الأفق كالعادة؟


إلى متى يظل قادة الكرد سادرين في غيهم واستهتارهم بمصير العراق والكرد معاً؟
وإلى متى يظل الشعب العراقي بعربه وكرده وتركمانه صابرين على أذاهم وعدوانهم؟
أسئلة أترك للقراء أن يجيبوا عليها ولا ينبغي أن نثقل فوق ثقل الأشياء!والأمل ما يزال معقوداً على الشعب الكردي بتطلعه للمستقبل،وقدرته على أن يأخذ زمامه بنفسه متخلياً عن قيادة تثبت يوماً بعد آخر أنها متخلفة عن نبض العصر، ولم تجلب له من وعودها سوى الفقر والقمع والفساد،وإذا ما برز من الكرد قادة مخلصون للكرد والعراق معاً،ونشروا الحب بينهما،فسوف لا نرى كوليرا أحشاء، ولا كوليرا سياسة،إذ الكوليرا لا توجد في زمن الحب!

إبراهيم أحمد