يحتفل المسلمون في شتى بقاع الأرض بمقدم شهر الخير والبركات، شهر رمضان الكريم الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس والبينات..
وتحلو الليالي الرمضانية بمظاهرها الإحتفالية التي قد لا تتكرر في ليالي السنة الأخرى، فلهذه الليالي طقوسها الجميلة وعاداتها المتوارثة منذ قرون طويلة، ولها رائحة ونكهة تنسي الصائم ساعات الحرمان من الطعام والشراب. وفي المجمل فإن حلاوة رمضان في لياليها، ولا فرق بين هذا الشعب أوذاك طالما إستظل الجميع بالدين الحنيف..

في كردستان حالها حال العراق، وهما صنوان لا يفترقان مهما توالت المشاكل والأزمات من خانقين الى كركوك وما دونهما في تكالب القيادات السياسية التي إبتلي بها العراقيون في هذا الزمن الرديء، على الجاه والسلطان!.

كانت ليالي رمضان في سنين خلت من أحلى المناسبات الإجتماعية ناهيك عن طقوسها الدينية، فتتزاور العائلات، وقد تحتشد في بيت من البيوتات وينشغل أفرادها بالإحتفال كل على طريقته الخاصة، فهذا يقضي الليل بالألعاب الفولكلورية المتوارثة كـ( المحيبس ) التي هي لعبة كردية عربية مشتركة على عناد الكتل السياسية المتصارعة اليوم في العراق، بفارق أن الأكراد يخفون المحبس تحت طاقيات الرأس ( كلاو )، والعرب يخفونه بأيدهم. وهناك لعبة الصينية والزار التي يجتمع لأجلها الشباب في المقاهي الشعبية فيسهرون حتى ساعات السحور منشغلين باللعب يرافقهم مطربين محليين الذين يحلون الليالي الرمضانية بمشاركتهم في الغناء، فيتناوشون المقامات العراقية فيما بينهم وصواني البقلاوة وقواطي البيبسي تدور على مدار الساعة باللاعبين ومن حضر من الأصدقاء والمشجعين لهذا الفريق أو ذاك.

كانت هذه الطقوس تمارس في الشهر الفضيل في أيام العز، والكهرباء ينير أرجاء المدينة، والفساد يعتبر في تلك الأيام، جريمة أخلاقية مشينة مخلة بالشرف، والتجار كانوا يعطفون على الناس بتخفيض أسعار السلع والمواد الغذائية للتخفيف عن كواهلهم، ويزكون أموالهم في هذا الشهر الفضيل لينعم الفقير أيضا بخيراته وبركاته، فلن تجد من يمضي الشهر محتاجا أو جوعانا على قلة الخيرات في ذلك الزمن الجميل.

واليوم.. وآه من معاناة اليوم، فحرمان الإنسان من الطعام والشراب، يضاعفه حرمانه من كل شيء.. لا كهرباء تنير الليالي الظلماء بعد أن خفضت حكومة الإقليم ساعات التجهيز الى أربع ساعات على مدار اليوم الكامل، على رغم وعود وزارة الكهرباء بزيادة ساعات التجهيز الى أكثر من 15 ساعة خلال شهر رمضان، فيسحر الكثيرون في كردستان على ضوء الشموع والفوانيس الصدئة، ولولا المولدات الأهلية لإنعدم الكهرباء تماما عن مدن الإقليم الذي يستلم سبعة مليارات دولار سنويا من الدولة، وحجة وزارة الكهرباء الكردية أن المحطة اليتيمة التي شيدها أحد أغنياء مدينة أربيل ( لاحظ أن المحطة لم تنشئها حكومة الإقليم على رغم مرور خمسة عشر عاما على تشكيلها ) أن تلك المحطة تعمل بالكاز؟؟؟!!! تصور عزيزي القاريء، في دولة نفطية تمتلك ثلث إحتياطي العالم من النفط الغاز تعجز فيها الحكومة عن توفير الكاز لتشغيل محطات الكهرباء؟؟!!.

مع حلول الشهر الفضيل ضاعف التجار وهم في الغالب من أعوان السلطة وبطانتها أسعار المواد الغذائية التي يتاجرون بها، لا بل أنهم يستوردون موادا غذائية غير صالحة للإستهلاك البشري بسبب رخص أسعارها في دول الجوار التي تحرص أكثر من حكومة الإقليم على صحة شعبها، ويوميا نسمع بإتلاف عشرات بل مئات الأطنان من المواد الغذائية الفاسدة من دون أن نسمع يوما بصدور حكم الإعدام بحق أحد التجار لتلاعبه بمصير هذا الشعب وتعريض حياة الناس الى الخطر بسبب إستيراد تلك السموم، وهذه جريمة تساوي عندي جرائم الإبادة البشرية التي إعتاد صدام حسين في عهده أن يرتكبها ضد شعبنا الكردي؟؟!!.

وأشك في الوقت ذاته بقيام هؤلاء التجار وهم من أصحاب الملايين بل المليارات من الدولارات بتزكية أموالهم، اللهم إلا في النوادي الليلية والملاهي بصرفها على الغانيات وبائعات الهوى، أو على موائد القمار في الليالي الرمضانية، فلهؤلاء أيضا طقوسهم الرمضانية في الفنادق من ذوات الخمس نجوم؟؟!!.

قبل يومين شعرت بالحزن والأسى وأنا أستمع الى تصريحات وزير صحة إقليم كردستان وهو يتحدث عن مخاطر قدوم مرض الكوليرا الى كردستان، بعد إنتشاره في مدن الجنوب.. هذا المرض المعدي اللعين الذي يهدد كل سنة حياة الملايين من الناس في كردستان قد إنمحى تماما من سجلات وزارة الصحة منذ سنوات طويلة، ولكنه عاد منذ خمس سنوات تحديدا بعد ( تحرير؟؟!!) العراق بسبب شحة المياه الصالحة للشرب على الرغم من الأموال الهائلة التي تنهمر على إقليم كردستان كل سنة. فمن يصدق أن هذا الإقليم المتكون من ثلاث محافظات وبميزانية سنوية تفوق ميزانية العديد من دول الجوار العراقي يشرب العديد من سكانه مياها منقولة بالصهاريج ( التنكرات )، وتفتقر العديد من أحياء مدنه وخصوصا السليمانية الى شبكات المياه الصحية الصالحة للشرب؟؟!!..

وكم تأسيت وأنا أستمع الى السيد الوزير وهو يتحدث بغصة عن الإجراءات الصحية الواجب إتخاذها لمنع إنتشار الكوليرا في كردستان، ويحتار كيف يمنع الآلاف من أصحاب العربات المتجولة الذين يبيعون المواد الغذائية المكشوفة في الشوارع والأسواق، لأن تلك العربات المتجولة هي مصدر عيشهم وكسبهم الوحيد؟!.

وكم حزنت عندما قرأت مذكرة نشرتها بعض الصحف المحلية عن مطالب بعض منتسبي الشرطة والأمن المحلي الذين هم عماد إستتباب الوضع الأمني في كردستان والساهرين على حماية مواطني الإقليم وهم يطالبون بمساواتهم في الرواتب والمخصصات بأقرانهم في المحافظات العراقية الأخرى، ويكشفون لأول مرة أن الحكومة العراقية ترسل سنويا رواتبهم ومخصصاتهم أسوة ببقية مراتب الشرطة والأمن في المحافظات الأخرى، ولكن حكومة الإقليم تقطع تلك الزيادات عنهم؟؟!. ويبلغ السيل الزبى لديهم فيهددون بالإضراب ويصرخون بأعلى أصواتهم quot; لن نسمح بعد الآن أن يركب مسؤولو الحكومة بسيارات آخر موديل ويبنون لأنفسهم فيللا وعمارات على حساب رواتبنا المقطوعة؟؟!!.
في القنوات الفضائية الكردية تعرض يوميا برامج ومسلسلات كردية تصور داخل أرقى البيوت والفلل وفي الأحياء الراقية بمدن كردستان ليوهموا الناس في الخارج بأن كردستان أصبحت جنة المأوى، ولكن تلك القنوات المملوكة للسلطة تدير ظهرها لمشاهد أولئك الناس الذين يخرجون قبل حلول المساء الى خارج المدينة للبحث في أكوام القمامة عن شيء يساوي ثمن رغيف الخبز؟؟!.

من يطل على مدينة أربيل من بعيد سيجد كيف أن غلافا من الأتربة والدخان تلتف حول المدينة من أطرافها، حتى لا يكاد المرء يشعر بوجود هذه المدينة دون أن يدخلها، فأي بيئة هذه يعيش فيها الإنسان؟!. أعتقد جازما أنه لو قدر لمنظمة مختصة بالبيئة أن تقيس مستوى التلوث في مدن كردستان الكبرى، لأحتلت أعلى مرتبات التلوث في العالم؟!.
وأعتقد بالجزم نفسه أنه لو إمتلكت حكومة كردستان مفاعلات نووية حقيقية، لما إهتمت حتى بمستويات تسرب الإشعاع من تلك المفاعلات ما دامت هي تدار من قبل أحد أفراد بطانتها الفاسدة؟؟!!..

إن هذا البلد تحول بفضل حفنة من المتسلطين على رقاب الشعب، الى جحيم لا يطاق، يجوعون الشعب ويهينون كرامته ويمرغون أنفه في الوحل. وأنا عندما أخاطر بحياتي لأكتب عن المافيات وعن حالة الفساد المستشري في هذا الإقليم المتحرر لا أخرج شيئا من جيبي، ولا أدعي ما لا وجود له، فحتى القيادات الكردستانية العليا تعترف بوجود حالة خطيرة من الفساد في الإقليم، وتعدنا مرارا بإقتلاع جذوره، ولكن الزمن يطول، ولا من مجيب، وأنا ككاتب يمليني ضميري الإنساني أن أكتب وأن لا أسكت عن قول الحق حتى لو دفعت الثمن برقبتي، لأنني ما ناضلت ولا خضت جبال كردستان لأكثر من عشرين سنة بعيدا عن أهلي وأطفالي وعشيرتي لأعيش في هذا الزمن الأعجف، وأرى ما لا يتحمله ضمير أي إنسان سوي.. وكم هو جميل قول الشاعر :

ذو العقل يشقى فى النعيم بعقله.. وأخو الجهالة فى الشقاوة ينعم.

شيرزاد شيخاني

[email protected]