يقتضي الحال اليوم، وأكثر من أي يوم مضى، القيام بمراجعة تاريخية لظروف وطبيعة وجوهر اعلان دمشق للتغيير الديمغرافي، والاعتذار علناً عما أتى فيه صلبه من إساءة وتجريح واستفزاز صريح، وبغض النظر عما يجمع فيما بين الإعلانيين أنفسهم من quot;مشتركاتquot; معروفة لم تكن يوماً، موضوعياً، وليست معياراً ومقياساً البتة لأية وطنية مزعومة. والتمعن، وأخذ الحكمة والعبر من غدر بوش بغير فريق وليس بهم فقط، وبالعواقب الوخيمة التي جرها الإعلان مادياً ومعنوياً على كثيرين آخرين، وكان، بحق، كارثة حقيقية في تاريخ سورية، وليس في تاريخ المعارضة السورية وحسب، وذلك لعدة أسباب أهمها:

أولاً: أتى الإعلان في سياقات إقليمية ودولية غير مؤاتية بدرجة كبيرة للعمل الوطني لأنه سيساء فهمها حتماً، وما رافقها من تهديد معلن لوحدة التراب والمجتمع والسلم الأهلي والأمن الوطني السوري. وبدا الإعلان، وبكل أسف، في حينها ومعها، كاستثمار سياسي مكيافيللي وانتهازي لها، وداعماً ومسانداً ومتآزراً متعاضداً ومتضامناً مع ما كان كان مطروحاً من محاولات لتفتيت البنيان الوطني السوري وصولاً إلى الفوضى الخلاقة التي كانت إحدى أمنيات بوش العزيزة على قلبه، وفريق محافظيه الجدد، ووكلائه المحليين ممن عملوا على مساندة مشروعه الجهنمي عن جهل أو عمد.

ثانياً: إن إقحام فقرة تديين سوريا، بدل علمنتها وهو المطلوب اليوم وطنياً، وعملياً، أكثر من أي وقت مضى، وفي ضوء الواقع التعددي السوري الجميل الذي نراه أنموذجاً فذاً وميزة وتفرداً وحسنة سورية بامتياز، في حين يراه القندهاريون سبة وعاراً يريدون التخلص منه وإعادة الأمور لنصابها السلفي، نقول أثار الإقحام ذاك هلع كل من يقرأ ما بين ثنايا السطور، واعتبر ذلك إعلاناً جلياً للوجه الروحي والعقائدي للإعلان أكثر من تقديم البديل الموضوع المطلوب والعقلاني المقنع، وللتوجه والنازع العقائدي الذي يسكن الإعلانيين، الذي سيعني ولا شك إخضاع كافة المكونات السورية المتعددة الأخرى لمشيئة، ورغبة من يعتقد بأنها تشكل أكثرية يتوجب عليها سوس الأقليات وفق هواها، وظهر كبداية لعملية تطهير عرقي مستبطنة في اللاوعي الموروث لكثير من الإعلانيين، وهذا ما عبر عنه مؤخراً وبشكل جلي أحد كبار الإعلانيين حين أماط اللثام عن وجه طائفي قبيح ووصف أحد المكونات السورية الأساسية بالحثالات الرعوية، هكذا وبالحرف الواحد، مقتفياً أثر أحد كبار الناعين القوميين والمعتقلين حالياً، وعجل الله في فرجه. من يرعبكم في هذه الحال أكثر شارون أم بلاشفة الإعلان؟ ( quot;أكثريتناquot; المقصود بها هنا في الحقيقة هي ربما من أكبر الأقليات الموجودة في سوريا، وليست أغلبية مطلقة بالمعنى الحرفي للكلمة، أو بالمفهوم الإجرائي الديمقراطي للمصطلح. وقد أثارت إحدى الإحصائيات المتعلقة بهذه الصدد، في وقت سابق، لكنها متزامنة مع الإعلان، عن تعداد المكونات السورية، حفيظة بلاشفة سوريا، واستنكروها ورفضوها بشدة واعتبروها مزيفة وغير صحيحة، وهذا ما يؤكد على حقيقة انتمائهم quot;البلسلفيquot;، ولا يوجد خطأ إملائي ها هنا).

ثالثاً: من جملة ما يطرحه الإعلانيون، ومشايعيهم، في الترويج للإعلان، هو أضلولة أن الإعلان قد حاز على إجماع غير مسبوق في تاريخ العمل السياسي السوري المعارض. وفي واقع الأمر فقد تم عمداً استبعاد، وquot;الاستغناء عن خدماتquot; أحد أهم المكونات المجتمعية السورية من الإطلاع أو التوقيع على مسودة الإعلان، إلا إذا كان الاعتقال السياسي الذي طال أبناء هذا المكون هو تمثيلية وفبركة كما صرح ذات يوم شيخ الإعلانيين رياض الترك. ورغم أن البروفيسور عارف دليلة كان يجاور رياض سيف في المعتقل، فقد استكثروا عليه رؤية الإعلان، ولو على الماشي، وغاب اسمه بشكل غير مفهوم ولا مبرر عن قائمة الموقعين، ولكن بعد ذلك جرت مراسم وطقوس ذرف دموع غزيرة وغريبة على عارف دليلة في منابر الإعلانيين، في إطار حفلة التضليل والتمثيل التي مارسها الإعلانيون.

رابعاً: بنى إعلان دمشق للتفجير الديمغرافي، جل مواقفه السياسية، وفي تحد غير مسبوق لنظام البعث الذي يحكم سوريا منذ 8 آذار/ مارس 1963بناء على إيحاءات خارجية سياقات إقليمية رافقت الاحتلال الأميركي للعراق، واغتيال الحريري وما أعقب ذلك من سحب للقوات السورية من لبنان، وحملات التهديد والوعيد ضد سوريا ومن غير طرف، ما يجعل إشهار الإعلان في تلك السياقات يخرق، ويدخل في المحظور السياسي الوطني وهو الاستقواء بالأجنبي، ويصبغه بكثير من الشكوك والريبة وبضع حوله الكثير من علامات الاستنكار قبل الاستفهام. ( اجتمع رياض الترك علناً مع البيانوني في برلين للتنسيق والتشاور والتعاون وعلى خلفية أن النظام قد صار قاب قوسين أو أدنى من السقوط، وتعالت مع ذلك صيحات المهللين والمكبرين لذلك). وإن أي فصل بين تلك السياقات وquot;الإيحاءاتquot; لا يدخل، وعذراً إلا في باب الجهل المطلق بالعمل السياسي، وهو نوع من العمى أو لنقل التعامي السياسي الذي نربأ على الإعلانيين أن يصابوا به بأي شكل من الأشكال، وهم من عتاة البلاشفة والمفكرين الاستراتيجيين، مع بقايا من لمامات الإيديولوجيات والقوميات والستالينيات المهزومة.

وإن أي فصل بين هذا وذاك ndash; أي الإعلان والسياقات- هو من باب التذاكي والإنكار المتعمد لواقع معاش، والتهرب لدرء أية تهمة أخلاقية سياسية قد تصيب الإعلانيين، ولا سمح الله.


اختلال موازين القوى، وتبدل الولاءات وانكماش المواقف والتبرؤ والتنصل منها، وانهيار المشاريع الإقليمية، وغياب السياقات الإقليمية والدولية واستحالة الرهان عليها، بعد اليوم، وأفول الحقبة البوشية، وتغير المعطيات الكلية، تستدعي كلها، بل وتقتضي خطوة جريئة من الإعلانيين ولاسيما بعد ضيق صدر الإعلانيين ومشايعيهم أنفسهم مؤخراً والتذمر من الإعلان وتركيبته وظروفه وللوضع المشلول والراكد الـ Standstill الذي آل إليه، لا لشيء، كلا وحاشا لله، إلا ليكونوا براغماتيين وعقلانيين، وليعوا ويتفهموا ويتبصروا قليلاً، ويشتغلوا سياسة بشكل صحيح، وليكونوا للآخرين قدوة ومقـْنـِعين. فهل يمتلكون الجرأة والشجاعة لفعل ذلك كما فعل جنبلاط، فها هو شيخهم وملهمهم السياسي يتشجع، تلك الشجاعة الآنية والظرفية والعابرة للسبيل التي أصيب بها جنبلاط فجأة، والتي جعلته فجأة من عشاق حزب الله وتصوروا!!! ووصفها داوود الشريان وقسماً بالله وليس من عندي، بتكويعة جنبلاط، وفي جريدة الحياة، نفسها قبلة البلاشفة السوريين). فهل ثمة أمل بالتراجع، ونقد الذات، وإعادة قراءة الواقع برؤى وطنية وبعيداً عن العنتريات والمزايدات الفارغة والأوهام وأحلام اليقظة التي لم تحرك، حتى اللحظة، شعرة واحدة في هيكل أو بنية النظام، والتي لم تنجل إلا عن مرارة، وخذلان، وخيبة أمل للإعلانيين؟

وكل إعلان وأنتم بألف خير يا......... شباب

نضال نعيسة
[email protected]