فألقينا بباب الصبر آلافا من القتلى،
وآلافا من الجرحى،
وآلافا من الأسرى،
وهدّ الحمل رحم الصبر حتى لم يطق صبرا،
فأنجب صبرنا صبرا (احمد مطر)!


صبرا وشاتيلا، أثقل على البصر رؤيتها، كونها جريمة، أثقل من الجريمة نفسها. فهي المجزرة التي حدثت وصورت وقائعها في 16/9/1982، لكنها quot;حدثت فعلياًquot; في عام 1948 حين قضى العالم الجديد، عالم حقوق الإنسان والتحرر، شطب شعبٍ من الوجود يُتهم بالإرهاب لأنه صرخ دامعاً: هذا بيتي آوي إليه ليلا، وهذه خبزتي تسد رمق جوعي!


عُدّوا quot;إرهابيينquot; تنبذهم المدن والعواصم، يقيمون بالمخيات/المقابر، في شريط محاذي لفلسطين أمست quot;أندلسquot;اً أخرى، ترك أهلها آخر دموعهم على أعتاب دويلات جديدة، لملوك الطوائف الجدد.
أصبحوا لاجئين ثقيلي الظل، تعاني منهم الكآبة والضجر والموت، حملاً ثقيلا!


في لبنان قارعوا الموت، وضارعوا أنفاق الضياع، مصارعين مع كلّ يوم حتى ينقضي، فيبدأ النزال الجديد مع الزمن البطئ، مع بزوغ أشعة شمس أرهبُ من حبال الإعدام النازلة!
هكذا تشتت الفلسطينييون، متمسكين بأرداء الفوت وهم ينزفون!


لم يعد بصر العالم يطيقهم، وهم بعد على أطلال وطنهم المسلوب، ينشدون الحزن ويذرفون الدموع، خائضين صراعاً يردهم سلفاً ويخذلهم كلفا، لنقصٍ في إستيفاء الشروط. فلا وزنهم وزن اليهود، ولا دعمهم دعم اليهود، ولا سلاحهم سلاح اليهود وكذا الشرط في الأعقاب.
وهكذا أمسى الفلسطيني اللاعب الخاسر الذي يكرهه الجمهور، ومن دون شفقة!

صبرا وشاتيلا، هي تلك البقعة التي شاهدتها كثيراً في لبنان، بعد ثلاثة عشر عاماً من حدوث الجريمة، وهي بعد تحتفظ بملامح المذبحة، وأحزانها الخالدة!


هناك حيث كان الفلسطينييون، أندلسيون، أكراداً جدداً في هذا الشرق التعيس، أبى الزمن العضوض إلا أن يذبحهم من جديد، فكان ما لا يمكن حدوثه عقلاً وضميراً ووجداناً، فحدث المستحيل! ولكن أين هو ضمير ووجدان هذا العالم الخاوي؟!
جريمة السادس عشر من سبتمبر (لم تُعرف بجريمة سبتمبر في التقويم العالمي!) أعدم فيها حوالي ثلاثة آلاف إنسان (أطفال، نساء منهن الحوامل، شيوخ وشباب) على طريقة إعدام جماعي في يوم مشهود!


في ذلك اليوم قُتل الأطفال في أحضان أمهاتهم وهم يبكون. أفراد أسَرٍ تطايرت بالرصاص أمخاخهم وهم يفطرون.
أصْطُفّتْ مذبحة صبرا وشاتيلا كرقم جديد، للمذابح التي أرتكبت ضد الشعوب المسلمة في التأريخ: مذابح أندلس، مذابح الجزائر، مذابح شمال وشرق كُردستان، مذبحة دير ياسين ولاحقاً مذابح البوسنة والهرسك والشيشان وكشمير، وحلبجة والأنفال في جنوب كُردستان.


وهكذا وبعد شروع القرن العشرين، بدأت المآسي تتوالى على شعوبنا. كيانات مزيفة جديدة، وبرؤوس مزورة مستعارة، فتكت بالشعوب والأبرياء!


الأكراد والفلسطينييون، ذاقوا أمرّ المرارات في التقسيمات الجديدة، في خلال الحربين العالميتين. فالأكراد قسّمت بلادهم، وشُطبت هويتهم، وعوقبوا على التمسك بها في دولٍ عاملتهم بالحديد والنار والموت. والفلسطينييون شُطب وطنهم، وأصبحوا لاجئين أو شعب إحتياط في الوجود العالمي!


وفي الزمن الجديد، أصبح نصيب هاذين الشعبين، حصد المذابح والدموع والأحزان.
الفلسطينييون حصدوا مذابح رهيبة في دير ياسين، قنطورة، الجليل، صبرا وشاتيلا ومذابح أخرى.
والأكراد حصدوا مذابح جماعية رهيبة على يد أنظمة الدول الأربعة في تركيا، إيران، العراق وسوريا.
ومن أشهر هذه المذابح كانت مذابح آمد، وان، شنو، مهاباد، سنه، عامودا. لكن جريمة الأنفال وجريمة حلبجة أصبحتا عنواناً ورمزاً لمظلومية الإنسان الكُردي.

وفي العلن تحديّاً، وفي السرّ ما أمكن، تحالفت هذه الدول والأنظمة في ما بينها عسكرياً وسياسياً لكبت وضرب كلّ حركة تقاوم هذا الظلم. إسرائيل تحالفت مع تركيا وقبلها عبر أميركا مع إيران الشاه. أما الدول الأربعة المذكورة، فتحالفت إلّا مع الله!!

الشيخ سعيد بيران علّق على المشانق عام 1926 في آمد، وكذلك القاضي محمد عام 1946 في مهاباد، والشيخ أحمد ياسين (المقعد الذي بالكاد كان يقدر على لفظ الصوت) عام 2004 في قطاع غزة.


ومنذ بداية القرن العشرين وحتى نهايته، وإلى اليوم إستمرت سلسلة المذابح والإعدامات، والفتك بالشعبين بلا هواده.
والأكبر من هذه الكوارث والمآسي، هو تلك القيادات السيئة التي أهدرت ثمار نضال الشعبين، وأصابت سمعتهما عبر سلطة منقسمة على نفسها، فاسدة شريرة: في كُردستان الإتحاد الوطني والحزب الديموقراطي (الكُردستانيين)، وفي فلسطين حركة فتح وحركة حماس (الفلسطينيتين)!


وفي الفضاء العام أمسى المثقفون في عالمنا المنكوب، تتزين تواشيحهم بمذابح غيرهم. فـ quot;عزة!quot; نفوسهم وتكبرهم على قومهم أنسياهم مذابح شرقهم، فتسابقت دموعهم دموع السيد الكبير، ولاءً له أكثر مما يوالي هو نفسه، ودموعاً على ضحاياه أكثر ما يذرف هو عليهن!


فصبرا وشاتيلا التي وقعت في شهر سبتمبر، لم تذكر إلا بخجل! وجريمة حلبجة أمست كما أنها لم تكن!
والسبتمبر الأميركي أصبح مهيمناً، كأنها هي الجريمة، التي لم تأت قبلها وبعدها أي جريمة على الإطلاق!
إن الحادي عشر، من دون شك، جريمة بشعة لا إنسانية ومتوحشة، أرتكبت ضد بني الإنسان. لكن ماذا عن صبرا وشاتيلا التي أرتكبت في شهر سبتمبر أيضاً؟! لماذا لا تتحول إلى رمز عالمي؟!


لماذا لا يذكر الناس إيّاها مع جريمة البرج العالمي للتجارة؟! على الأقل حتي يعرف الناس أننا نحن المسلمون، نحن الشرقييون، ضحايا الإرهاب قبل غيرنا!


لماذا يمر شهر آذار كل عام، والعالم الإنساني لا يذكر جريمة حلبجة؟! حتى إذا تجولنا في عواصم العالم بملامحنا الشرقية، أن quot;لاquot; يبكونا، ولكن أن لا يحدقوا فينا وكأننا وحوش ذو أنياب!


إنهما جريمتان أرتكبتا ضد شعبين مسكينين في (العالم الثالث: لاحظ التصنيف!)
وكذلك فإن الجريمة الأولى أرتكبت تحت إشراف (رمز) quot;ديموقراطي وتحرريquot; (آرييل شارون)!
والثانية أرتكبت بأسلحة غربية (أوروبية ـ أميركية وروسية)، أثناء الوئام مع نظام دكتاتوري أفل!
وليس من مصلحة العالم المعاصر تشويه صورته، باستقدام أفعال الشناعة، التي ارتكبها ضد شعوب مغلوبة!
وإذا كانت النغمة هكذا، فأجمل لحن للكتابة والخطابة هو اللحن السائد، شرط عالميته!
ولتذهب صبرا وشاتيلا وحلبجة و المذابح الآخرى (إلى الجحيم)!

علي سيريني

[email protected]