إن هذا الاعتراف من قبل الكنيسة الكاثوليكية، هو تعبير عن استمرارية التنازلات الكبيرة التي شرعت بتقديمها هذه الكنيسة بسبب ضغوط القوى الالحادية(العلمية) المعادية للدين وللكنيسة، والتي بدأت تهيمن على الحياة في المجتمعات الغربية منذ قرنين. وتنامت هذه الهيمنة بصورة كبيرة في السنوات الاخيرة بواسطة الحملات الاعلامية اليومية والدائمة والمنظمة بصورة تعسفية ولا ديمقراطية ضد الكنيسة. يكفي التذكير بالرواية الشهيرة( شيفرة دافنشي) التي تم الاحتفاء الجنوني بها رقم ان قيمتها الفنية محدودة جداً، وتم تحويلها الى فلم ضخم، لأنها بكل بساطة تهين المسيحية والمسيح وتعتبر الكنيسة الكاثولية أشبه بعصابة مافيا اجرامية!


كما ان هذا الاعتراف البابوي لا يعبر أبدا عن الرأي العام المسيحي، فهو اولا لا يعبر عن اجماع كاثوليكي، ثم انه لا يشمل الكنيسة الارثوذكسية المنتشرة في اوربا الشرقية، وكذلك لا يعبر عن غالبية الكنائس البروتاتسنية حيث الكثير منها ترفض هذه النظرية، وهنالك تيار مسيحي بروتستاني اميركي غالب رافض لهذه النظرية.

هذا فيما يخص الاعتراف الكاثوليكي، اما من ناحية اعتقادنا الشخصي نحن، فنسجل الملاحظات التالية:


ـ ان (نظرية داورن) هي (نظرية) يعني ليس (قانون او قاعدة علمية) مؤكدة ومثبتة حياتيا ومختبريا. والنظرية تعني بكل بساطة انها(افتراض) قائم على بعض المعاينات، ولم تصبح (قانون او قاعدة) الا بعد ان تثبت فعليا في الحياة او في المختبر. وحتى الآن رغم مرور اكثر من مئة عام على هذه النظرية، لا الحياة ولا الاف المختبرات والعلماء، تمكنوا من تحويل قرد الى انسان، او حتى تحويل نخلة تمر الى نخلة جوزة هند، بل لم يتمكنوا حتى من تحويل(ذئب) أو (ثعلب) الى (كلب). لننظر الى الكلاب التي تعيش مع الانسان منذ مئات الآلاف من السنين، ورغم كل المعاشرة والتغذية والتأثير الحياتي اليومي، فأن هذه الكلاب لم تتقدم في الذكاء عن اسلافها ولا حتى في لفظة واحدة او نظرة او حركة، بل حتى نباحها وعوائها ظل خاليا من حرف مفهوم واحد.


إذا كانت (ظرورات الطبيعة) وحدها هي التي منحت النمور تلك المخالب والانياب لكي تدافع عن نفسها، فلماذا لم تمنح هذه الطبيعة نفس الامكانات الى الغزلان والارانب التي تعيش في نفس الغابة؟!


ان هذا يدل على ان الظروف ليس وحدها المسؤولة عن التطور والتحويل، بل ثمة (قابلية داخلية) يحملها كل كائن في داخله. وهذه (القابلية او البرنامج المسبق الخاص بكل كائن) هي السر الالهي الجبار التي يصر الالحاديون على محاربته.


ـ ان نظرية دارون، مثل كل النظريات والمكتشفات العلمية، يتم استثمارها بصورة تعسفية ومفتعلة جدا من قبل الالحاديين من اجل دحض كل ما هو روحي وغيبي. رغم ان دارون نفسه لم يستخدم نظريته هذه لكي ينفي ايمانه هو نفسه بالله والمسيحية!


نعم هنالك (العلم) الذي هو حيادي وليس له اية علاقة بالالحاد، وهنالك (الآيدلوجية العلمية الالحادية) التي تتخذ من العلم حجة لفرض عقديتها المتعصبة ضد كل ما هو روحاني. ان البشرية منذ ان بدأت تصنع الحضارة منذ آلاف السنين، بدأت ايضا تصنع العلم. ولا ننسى ان اولى الحضارات العلمية في التاريخ هي الحضارتين العراقية والمصرية، ومن بعدها الصينية واليونانية والسورية والايرانية والرومانية، ومن بعدها العربية الاسلامية، كلها كانت حضارات قائمة على الايمان الديني رغم كل مكتشفاتها العظمى في الطب والفلك والكيمياء والفيزياء والمكننة وغيرها!


فالدين والعلم ليس بينهما أي تناقض، وغالبية رجالات العلم على مر التاريخ كانو مؤمنين. وما هذا التنقاض المفترض، الا اختراع حداثي مفتعل فرضته الحضارة الغربية التي تهيمن عليها التيارات الالحادية، التي تستخدم العلم تعسفا لكي تبرر خطابها الالحادي.


ان الصراع المشتعل في المجتمعات العربية، بين انصار ورافضي (نظرية دارون) ما هو دليل على استمرار تبعيتنا للعقل الغربي. نحن مثقفوا الشعوب العربية، علينا ان نتخلص من تبعيتنا المتطرفة للعقل الغربي وتبني اشكالياته وصراعاته الخاصة به ونتاج ظروفه التاريخية.


سبق وان كتبنا ونعيدها الآن:


ان مشكلتنا العظمى نحن ابناء المجتمعات العربية وسر ازمتنا المستعصية، يكمن في تمزقنا منذ اكثر من قرن، بين تيارين متعصبين منقطعين تماما عن واقعنا المعاش: التيار الحداثي الالحادي الذي يعتبر مرجعيته في عواصم الغرب، يقابله التيار السلفي الذي يعتبر مرجعيته في الماضي الديني البعيد، وكلاهما اتفقا على احتقار حاضرنا وعدم النظر بواقعية وموضوعية الى واقعنا المعاش وهويتنا الحضارية الخاصة بنا.

نحن مثل العائلة المشرذمة بين ابوين منفصلين: ابونا مغترب يتسكع بين باريس ولندن، وامنا ناسكة تائهة في صحارى الاسلاف!

سليم مطر

جنيف
www.salim-matar.com