لعل المديح الذي ينهال على سياسات الحكومة التركية بزعامة رجب طيب أردوغان في وسائل الإعلام العربية يفوق بأضعاف مضاعفة تلك المدائح وتباشير الخير التي نجدها في وسائل إعلام تابعة أو مقربة لحزب العدالة والتنمية في تركيا.


ورغم انبهار النخب الثقافية العربية المتأسلمة بالنموذج التركي الذي بات يحكم تركيا من رأسها حتى قدمها وغمز هذه النخب أحيانا وتصريحهم في الكثير من الأحيان بضرورة اقتداء الإسلاميين المعتدلين العرب بالنموذج الأردوغاني، فإن هذه النخب ذاتها تتجاهل نقاط النجاح اللاأخلاقية في النموذج التركي الإسلامي. والغريب أن جعل نموذج حزب العدالة والتنمية التركي مثالا يحتذى لا يأتي فقط من كتاب من النخبة الاسلامية العصرية أمثال فهمي هويدي، بل ينسحب على الكثير من العلمانيين أيضاً.


الحديث عن النجاحات الباهرة للحكومة التركية حسب النخبة العربية المدّاحة هي إقامة علاقات متوازنة مع الدول العربية والموقف التركي غير المنقاد للولايات المتحدة في العراق والوساطة التركية للسلام بين سوريا وإسرائيل، ولا ينسى هؤلاء أن يتحدثوا عن النجاحات الاقتصادية التي حققها أردوغان لتركيا ليقنعوا القارئ أنهم على قدر من الثقافة الموسوعية في كل ما يخص تركيا. وإذا بدانا بالنقطة الأخيرة التي هي الاقتصاد، ودون إيراد الأرقام التي لا تفيد في شيء، يمكن لأي كاتب لا يرى مادة يكتبها سوى كيل المديح على السياسة التركية أن يذهب إلى مطار دولته ويسأل العائدين من تركيا، سيجد أن النمو والنجاحات الاقتصادية لأردوغان ناتجة عن التوسع في السياسات الرأسمالية وفتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية لشراء تركيا، وبالتالي هي سياسة اقتصادية تعتمد على النجاحات التي يحققها الرأسمال الأجنبي في تركيا، بينما تذهب مليارات الدولارات من الميزانية التركية إلى الحرب التي فوض حزب أردوغان الجيش بخوضها ضد الشعب الكردي.


السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا، لماذا كل الكتاب العرب من هذا النوع لا يعيرون أدنى اهتمام للحرب التي تشنها الدولة التركية على الأكراد وتأثيراتها على الوحدة التركية والأهم من كل ذلك على الديمقراطية التركية المزعومة، ألا يشكل هذا الأمر ريبة في النفوس من ان الكتاب ذوي الخلفية الاسلامية ما زالوا محكومين بهاجس أولوية القوة مهما كان شكلها على الديمقراطية؟ ما الفرق بين هذه النزعة والنزعة الفاشية؟


الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس التركي عبد الله غول إلى ارمينيا كانت خطوة جريئة بدون شك، وهذه الجرأة بحد ذاتها تطرح تساؤلات عديدة، أولها كيف سمحت النخبة العلمانية والمؤسسة العسكرية بمثل هذه الزيارة في الوقت الذي يجهد فيه أرمن الشتات بكل قواهم لتدويل قضية المذابح التي ارتكبتها السلطنة العثمانية ضدهم وراح ضحيتها مليون ونصف المليون أرمني أثناء الحرب العالمية الأولى؟ الاجابة ليست بعيدة عن القضية الكردية، فالمؤسستان المدنية والعسكرية في تركيا مختلفتان في كل شيء باستثناء ضرب المطالب الكردية في تحويل تركيا إلى دولة ديمقراطية وليس كما يشيع الاعلام التركي وحلفاؤه إقامة دولة كردية مع العلم ان هذا المطلب أيضاً مشروع في حال أصرت تركيا على محاربة دعوات السلام الكردية. وعلّق عبد الله اوجلان الزعيم الكردي المعتقل لدى تركيا على هذه الانفتاح بقوله :quot;يدعون أنهم يريدون صداقة الأرمن، وهكذا بالنسبة لليونان وقطاع الروم في قبرص. يدعون بأنهم يمدون يد الصداقة للجميع. حسناً، الشعب الكردي يحملك على ظهره منذ ألف سنة، لماذا لا تمد يد الصداقة إليه علماً بأن الأكراد حملوك على ظهرهم لألف سنة؟ quot;.


ضمن هذا السياق فإن انفتاح تركيا على الشرق الأوسط كما يسمى ( بمعنى انفتاحها على الدكتاتورية في الشرق الأوسط ) وعلى ارمينيا وإيران تاتي على حساب شعب يسمى الأكراد وتعداده يقارب الخمسين مليوناً وليس 50 ألف. هذا الانفتاح الاقليمي التركي يهدف إلى تجفيف أي مصادر دعم محتملة ليس من دول الجوار التي لا تختلف سياستها عن سياسات تركيا بل من شعوب الجوار التركي. من يؤيد تركيا وسياستها الحالية فهذا حقه في إبداء موقفه ورأيه ولا خلاف على حرية الرأي والموقف، لكن هؤلاء مطالبون أيضاً بإعلان عدائهم للحقوق الكردية بدلا من صم آذانهم وفقأ أعينهم عما يجري على أرض الواقع.


عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل بتعاون استخباراتي تركي إسرائيلي أميركي منذ عام 1999، صرح في آخر زيارة قام بها محاموه في معتقله بسجن إيمرالي ببعض التصريحات المحورية:
quot;أنا أدعي بحدوث quot;الإبادة العرقية الثقافيةquot; في المنطقة (الكردية). هذا الشعب لا يستطيع تسمية أولاده بأسماء بلغته، وقد قلت لوالدتي عندما كنت طفلاً،quot;إنك لا تستطيعين إطلاق أسم كردي على طفلك، فهل هذا هو الشرف؟quot;


كيف يمكننا تقييم هذه المقولة، هل نستمر في المديح الظلامي لحكومة العثمانيين الجدد أم المطلوب إبداء موقف من النخبة المدّاحة وكتابهم تجاه من يفوقهم في معاداة إسرائيل، وهنا يمكن ان نضيف نقطة في غاية الأهمية، بعد الاطلاع على تصريحات اوجلان ومواقفه من الحقوق الفلسطينية والاحتلال الأميركي للعراق وموقفه الصلب تجاه الصهيونية والذي لا يخلو لقاء له مع محاميه إلا ويذكرهم بانهم يريدون السيطرة على تركيا من خلال النزعة القومية، ويقول في أحد لقاءاته:
اليهود هم الذين صنعوا quot;هتلرquot; وهم الذين جعلوه هتلراً، فقد كان هناك يهود في المواقع المهمة في الجيش الألماني، والغريب أن quot;هتلرquot; أباد اليهود. وكذلك القوموية البعثية لدى العرب وصدام خاصة، مهما بدت معادية لليهودية إلا أنها نوع من الصهيونية العربية، أو أنها الحال المعكوسة للصهيونية اليهودية، وكذلك الفاشية الشيعية تبدو معادية لليهودية ولكنها فاشية وخطيرة.

السؤال الذي لا بد من طرحه هنا على أولئك النخبة المداحة، النخبة التي تعيش الانفصام، النخبة التي تحب علي وتحترم معاوية، النخبة التي تعصم الخلفاء الذين ملؤوا الحفر بجثث المعتزلة وغيرهم... طوال عمركم تبحثون عن أي شخص ينتقد إسرائيل والصهيونية لتهللوا له من تشافيز اللاتيني إلى كيم إيل سونغ الشيوعي، فما بالكم عندما خرج أحد أعتى منتقدي الرأسمالية وملحقاتها في المنطقة تجاهلتموه على هذا النحو؟ حتى الكردي الذي ينتقد الصهيونية عن وعي وضمن منظومته الفكرية المتماسكة تخونونه لمجرد الرداء العثماني الذي يرتديه أردوغان؟


هنا أطالبكم بعدم الاعتراض والانتفاض من كرسيكم عندما تجدون كرديا يصافح أولمرت. أو على الأقل قولوا للشعب الكردي ما الذي تريدونه بالضبط، لأننا لم نعد نفهم عليكم.

حسين جمو

كاتب وإعلامي كردي