ما حقيقة العولمة؟ هل هي استكمال حضاري لمسيرة إنسانية حافلة بالانعطافات والتغييرات؟ أم هي انعطافة مفاجئة في مسار الجهد البشري، وبعبارة أخرى هل ستكون العولمة ختام التاريخ أم مثلبة مهمة فيه وحسب، إما بالنسبة لشكل العلاقة بين الحضارات فهل ستكون علاقة تلاقح وتصويب أم إلغاء وتذويب وكيف يكون موقفنا منها؟ هل يأخذ شكل التحدي والرفض أم الاستجابة والقبول.

هذه التساؤلات وغيرها ستكون محور بحثنا محاولين قدر جهدنا تكوين صورة عن هذا المفهوم الذي يشكل اليوم هاجس البشرية ومصدر خوفها ليس لأنه يعبر عن شيء سيئ أو غير ذي فائدة إنما لان المنطق البشري لم يستسغ بعد عملية تعويم السيادة وتذويب الثقافات ولم يتخلص بعد من اندهاشه الغريزي تجاه ماهو جديد ورغم اننا عرفنا انماطا مختلفة للعولمة الا اننا لم نتوصل بعد الى تلك العولمات ماهي في الواقع إلا نماذج بدائية للعولمة الكبرى التي نعيش الان مبتدأها. اذ لم يعد بأمكاننا تجاهل حتميتها وظفرها.

حقيقة العولمة
اذا كانت السياسة بحسب تعريف الاقتصاديين هي تعبير مركز للاقتصاد فأن العولمة هي تعبير مركز للتطور الاقتصادي الشامل لانها عملياً تمثل تنسيقا( سياسيا) للتبادلات التجارية والعمليات الانتاجية المختلفة حيث تغدو العلاقة مباشرة بين الشركات المتعددة الجنسية والتي تتوزع على شكل شبكات من الفروع تنتشر على مختلف دول العالم وبذلك فان الهدف الاساس للعولمة هو تحويل العالم من مجموعة اسواق صغيرة تمثل دول العالم المختلفة الى سوق واحد كبير لاتحده حدود او قيم غير قيم السوق ولاتربطه معايير غير معايير العرض والطلب وبالتالي فهي عملية تبسيط للعلاقات الدولية التي يغلب عليها الطابع البريتوكولي لتغدو اكثر تعبيرا عن الواقع الذي تتحكم به العلاقات الاقتصادية والمصالح التجارية وقيم السوق التي تعد وفق المنطق الاقتصادي للقيم الاساسية الحقيقية للمجتمع الانساني جاعلين من العلاقات التجارية المحور الاساس في العلاقات الانسانية والسبب الاكبر في دوامها لانها نتاج لتطور العملية الانتاجية وصيرورة النظام الرأسمالي وبدلاً من ان لتتصارع او تتنافس الدول سياسيا وعسكريا بالانابة عن شركاتها الاقتصادية فتخرج الشركات ذاتها لتصارع او تننافس تجاريا وفق الشروط التي يفرضها السوق الامر الذي يساعد على تحويل الصراع البشري من صراع سياسي وعسكري الى صراع اقتصادي تجاري فيما ينحو العالم باتجاه بلورة واقع جديد تنعدم فيه المفاهيم الشعارية لتستبدل بـ مفاهيم المصلحة والمنفعة والفائدة الاقتصادية.
لقد اخذ العالم يسير بخطى سريعة بأتجاه ترسيخ العولمة حيث حصد هذا المفهوم اولى نجاحاته بـ انجاز شبكة الاتصالات العالمية( الانترنيت) الذي مثل اول خرق حقيقي للحدود السياسية القائمة بين الدول وهناك انجازات اختراقية اخرى مثل جهاز الستلايت والموبايل اضافة الى دور منظمة التجارة العالمية(الجات) وبمزيد من الاختراقات الفاعلة ستغدو الحدود السياسية بلا قيمة او فاعلية مما يسهل رفعها او تجاوزها اذا اقتضت الضرورة.

حتمية العولمة
عند مناقشة موضوع تحقق العولمة يبرز لنا رأيان احدهما يرى ان العولمة هي قدر العالم ومطلبه وهي بذلك لاتعد هدفاً جائز التحقق بل هي واجب اساسي وضروري لنجاح الانسان في كفاحه من اجل تحقيق الحياة الهانئة فيما يرى الاخر عكس ذلك اي ان العولمة ليست قدراً محتوما والتوافق معها ليس امراً حتمياً انما هناك امكانية وحاجة لرفضها وعرقلة مسارها ذلك لان العولمة بحسب هؤلاء لاتمثل هدف جميع الشعوب البشرية انما بعضها فقط لانها تجعل من بعض الشعوب عبيداً لشعوب اخرى بعد ان توفر العولمة السبيل للاستبعاد من خلال مفهوم تقسيم العمل او الاختصاصات لتكون الدول الضادية دول منتجين ودول مكتبيين والدول النامية والفقيرة دول مستهلكين وعمال وبالتالي فان الشعوب التي ستستفيد من العولمة التي استعدت لها جيداً او اصبح مجيئها امراً ضروريا بعد بلوغ انتعاشها الاقتصادي مرحلة الذروة فيما ستكون الشعوب الاخرى لاسيما المتخلفة منها مجرد سوق لتصريف البضائع الرأسمالية او حاوية لجمع الازبال والنفايات المتخلفة من مصانع تلك الدول ومواقع دائمية لتصديرالعمالة والمواد الاولية بعد ان تفقد قدرتها على التعامل مع المتغيرات الاقتصادية السريعة.

ولو القينا نظرة فاحصة على هذين الرأيين وحاولنا تأمل مايعنيانه بالنسبة لمسيرة الانسان لادركنا اننا بأزاء امر مهم هو في الواقع مستقبل الانسان ولذ لابد من التعامل مع هذا الامر بطريقة تمكننا من بلوغ الايجابيات وتلافي السلبيات فاذا كان نجاح العولمة امرا مخيفا فأن فشلها ليس بالشيء البديل وبين هذين الامرين لابد من بلوغ حالة وسط تجنب العالم سلبيات العولمة والحصول على ايجابياتها.

ان مخاوف البعض من ان تكون العولمة صورة اخرى لمفهوم دارون عن الانتخاب الطبيعي او البقاء للاصلح هو في الواقع شيء حقيقي لان العولمة نهر كبير لن يطفو فيه الا من يستطيع العوم اما الاخرون غير القادرين على ذلك فيكون مصيرهم الغرق فيه.
لذا من الضروري ايجاد مناخ ملائم يسمح ببقاء الشعوب الاخرى حية ضمن اتون العولمة العارم والا سيفدون مجرد حطام لاقيمة له والى حين اندماجهم الكامل يغدو الانفتاح التدريجي الوسيلة الملائمة لذلك علماً ان الشعوب المتخلفة ليس لديها ما تخسره عند خوضها معمعة العولمة التي سيطحن هديرها كل الشعوب المتقدمة والنامية معاً.

ختام ام مثابة
هناك تساؤل يحضر عن مناقشة موضوع العولمة وهو هل تمثل العولمة لحظة الختام بالنسبة للتاريخ البشري ام مجرد مثابة مهمة فيه واذا كانت ايا من هذين الامرين فماذا يعني ذلك. ان تكون العولمة مثابة او مرحلة ضمن مراحل التاريخ البشري فهذا يعني ان هناك مايعقبها استناداً لفكرة هيغل التي وصف بها التاريخ على انه مسيرة الفكرة المطلقة الى التحقق وبما ان الفكرة المطلقة تعني شيئاً ابديا فأن المثابات تعد بمثابة وقفات تعاين بها الفكرة المطلقة تحققها في الواقع البشري ولو كانت العولمة احدى مثابات التاريخ او الحركة الاقتصادية فأن من غير الصحيح بحسب راي الهيغلية اليمينية معاكستها لانها جزء من صيرورة الكون اكن هناك من يعتقد ان بالامكان تغيير المثابات ما دامت لا تمثل حالة نهائية وذلك بهدف تقليص المراحل وجعلها اكثر ارتباطا بالحاجة المباشرة للانسان وبالطبع اصحاب هذا الرأي وجلهم من الهيغيليين اليساريين يجعلون من السلبيات المفترضة للعولمة سببا اساسيا لرفضها او تغيير مسارها اما كونها ختام التاريخ كما افترض ( فوكو ياما) فهو امر غير صحيح ليس وفق المنطق النظري كما تطرحه فلسفة هيغل او غيره من الفلاسفة الاخرين بل بحسب المفهوم التطبيقي للحركة الاقتصادية ايضا اذ تبدو هذه الحركة وكأنها ابدية وفقا للمنافذ التي تبدعها والافاق التي تنشئها وبتقديرنا لاتمثل العولمة مايمكن وصفه بختام او مثابة بحسب اراء الحداثيين او مابعد الحداثيون انما هي طريق مديد بلا اي حد ولعل خير توصيف لها اعتبارها منهجا حضاريا او اقتصاديا جديدا يمثل نهاية للمنهج القديم الذي واظبت عليه البشرية منذ اقدم العصور والى حال التاريخ حيث كانت البشرية في حالة اختبار لوسائلها وطرقها من اجل الوصول الى ماهو اضمن في تحقيق الاهداف الانسانية.
ولذا فالعولمة هي الوسيلة الاكثر ضمانا لبلوغ الاهداف البشرية بل افق من مراحل جديدة لانهاية لها الامر الذي يدفعنا الى التمسك بها وتبنيها لتكون منهج البشرية الجديد.

العولمة طريق الى الحضارة العالمية
العولمة بحسب كل من المتفائلين والمتشائمين اما تلاقح وتصويبا او الغاء وتذويب ولو كانت تلاقحا وتصويب فان النتيجة العامة لها هو انشاء حضارات متكافئة يحترم بعضها البعض وهذا الامر لايحصل الا في وسط حضارات قوية يتمتع كل منها بالقدرة على البقاء وفي ظل نظام عولمي يحترم الخصوصيات ويحافظ عليها ولو كانت العولمة الغاء وتذويبا فان نتيجتها النهائية دمج الحضارات والثقافات في نسيج واحد تهيمن فيه الحضارة الارقى لان صدام الحضارات الذي تفرضه العولمة سيؤدي بالنتيجة الى انتصار حضارة من تلك الحضارات لتكون المعبرة عن وجه العولمة الصريح اي العولمة سوف لن تفرز الا حضارة الامة الاقوى ولذا يتخوف البعض من ان العولمة هي سبيل لامركة العالم الذي يفرضه مفهوم الانتخاب الحضاري استناداً الى تفوق الحضارة الامريكية وحيويتها مما يجعل من العولمة مجرد تسريع لمفهوم الصدام الحاصل في البيئة الحضارية حيث نجد ان صراع الحضارات قد تسبب في موت بعضها وبقاء البعض الاخر الى درجة ان الحضارات الباقية لم تتعد اصابع اليد الواحدة فيما ان الحضارات بحسب توينبي قد تجاوزت العشرين.

لقد افصح هنتنغتون عن حقيقة هذا الصدام عندما طرح حقيقة ان هذه الحضارات تعيش حالة نزاع وان واحدة من بينها ستعيش معتقداً بأن الحضارة الغربية هي الاقدر من سواها على البقاء لكنه اشار الى ان لبعض الحضارات قدرة على عرقلة المشروع الغربي مع انه ينفي قدرتها على اسقاطه واصفا الحضارة العربية الاسلامية ومعها الحضارة الكونفشيوسية بأنهما بمثابة العدو الذي يتربص بالغرب وبالتالي فقد ابرز هنتنغتون في اطروحته حقيقة العولمة معتبراً انها تمثل طاحونة الحضارات التي لابد للحضارات من دخولها لكي تثبت جدارتها بالبقاء.
لكن العولمة ليست في الواقع هذين الامرين لانها ابعد من حالة التلاقح واقل من حالة الالغاء لان القيم البشرية لاتختفي بسهولة ناهيك عن ان الحضارات لاسيما الحضارة الغربية ليست متمايزة بعضها عن البعض الاخر لان تبنيها من قبل بعض الشعوب يجعلها متضمنة للكثير من القيم الاجنبية وبالتالي لاتوجد حضارة تحمل نسقا محليا وان وجدت فهي حضارة ميتة لامحالة والحضارة العالمية اذا ما تشكلت ستكون حضارة جميع الشعوب لان الجميع ساهموا بها وهي نتاجهم جميعا علاوة على كونها ضرورية لتوحيد عموم الجنس البشري وتوجيهه الوجهة الصحيحة.

لنقبل العولمة
اذا دعاك احد ما الى نزال فامأمك امران اما قبوله او رفضه حيث ينطوي القبول على احتمالي النصر او الهزيمة، ولو نظرنا الى مسألة العولمة بهذا المنظار لوجدنا أن رفضها لايعني شيئاً بقدر ما يعني تأجيل النزال الذي سيكون حتمياً في اللحظة التي تتلاشى فيها فرص الرفض وبالتالي ستكون النتيجة الخضوع لمنطق الالغاء وبشكل كلي لكن لو تم قبول العولمة بوصفها نزالا يحتمل امرين متباينين النصر والحفاظ على الذات والهزيمة او الخضوع لمنطق الالغاء الذي تفرضه قوانين النزال تكون قد حصدت امرين اولاً اثبت تحديك ورغبتك في المنازلة التي قد تأتي او لا تأتي لصالحك رغم علمك بصعوبة النصر وثانيا جعلت الهزيمة المرجحة اخف وطأة مما لوجرت بدون نزال.

لذا علينا ان نكون منطقيين عند تعاملنا مع موضوع العولمة لان تجاهلها او مجابهتها سوف لايؤدي الى اي نتيجة بأستثناء غلبة العولمة وهيمنتها ولو طرحنا اهم السيناريوهات التي يمكن ان نعتمدها في مقابل العولمة لوجدنا اننا كـ الذي يعوم ضد التيار الجارف لان اي سيناريو لن يوقف العولمة فـ التقوقع وتسوير الذات هو انتحار بطيء وعملية خنق للنفس ولاتشكل اي خطر على العولمة اما المجابهة او محاولة الوقوف بوجه العولمة بأي شكل اقتصادي او عسكري او حضاري فهو امر مستحيل في ظل التطور الاقتصادي والحضاري الكبير لاقطاب العولمة وقدراتهم التكنولوجية الكبيرة لكن هناك من اصحاب هذا التيار جماعة ترى في الارهاب وسيلة جيدة لمجابهة العولمة او عرقلتها من خلال استهداف القيم الحضارية للعولمة وافشال دورها الحضاري بجعل العالم يعيش حالة تخوف وارتياب دائمين بعد ان يدرك أن الاندماج والانفتاح لن يكون مأمونا في ظل وجود الارهاب.
لكن هذا المشروع الذي يراد منه ضرب العولمة وافشالها لن يكون بامكانه انهاء العولمة بل على العكس لعله سيكون احد اسباب نجاحها او انها ستكون سبباً لفشله لان الانفتاح على الاخر سيحرك امرين اولاً وضع الاخر في الصورة بحيث يسهل مراقبته في كل وقت وثانياً يجعل هذا الاخر في وضع المتلقي الذي ينشغل باستقبال ما يأتيه من الخارج ليكون مصيره الخوع التدريجي لقواعد لعبة العولمة.

باسم محمد حبيب

[email protected]