ليس هناك شك في إن للمسالة الدينية تأثيرها الكبير في مسار الحياة اليومية للأفراد وفي تطور المجتمع بشكل عام نظرا لطغيان الذاتية على الموضوعية في عالمنا الشرقي ولان القضية الدينية لم تأخذ طابعها المنطقي الذي يفرض أن تخضع مثل غيرها لسنة التطور انطلاقا من وهن العقل الحاضن لها فقد أصبح تأثيرها سلبيا ليس في مجرى الحياة اليومية وحسب بل وفي مسار التطور العام وهيكلية العقل المنظم لهذا التطور وليس أدل على ذلك من بقاء الشعوب الشرق أوسطية في أطار العقل الديني الذي يمثل مرحلة واحدة من مراحل العقل الديناميكية فبحسب أوكست كونت يمكن تقسيم المسار العقلي إلى أربعة فترات أولها الفترة السحرية الأسطورية التي مرت بها جميع المجتمعات البشرية لكن لم يسع إلا لبعضها اجتياز هذه المرحلة حيث بقيت الكثير من المجتمعات في أطار تلك الفترة لقرون عديدة وبعضها مازال إلى الآن يعيش منطق تلك الفترة وعقليتها كما هو الحال في شعوب البوشمن والاستراليين الأصليين وغيرهم أما المرحلة الثانية فقد غلب عليها الطابع الديني بالرغم من أن لهذا الطابع جذور أقدم تمتد إلى عمق الفترة السابقة ( حقبة الصيد والالتقاط ) إلا أن هناك فروق أساسية تجعل من تلك الفترة إرهاصة بسيطة للفترة اللاحقة المرتبطة بالحقبة الزراعية سيما وان هاجس الإنسان الأساس كان اتقاء شر المخاطر والحصول على التطمين النفسي منها الأمر الذي دفعه إلى محاولة استمالة الأشياء من حوله أو استرضائها عساها ترفع يدها عنه ولا تستهدفه لان العقلية البدائية كانت ترى في تلك الأشياء أرواحا تملك أرادة الإيذاء ولا يمكن اتقاء شرها إلا باستدرار عطفها الأمر الذي أسس مفهوم الطوطم بما يمثله من واقع انتقالي مهد لظهور الدين الذي يرجح انه واكب قيام الثورة الزراعية تلك الثورة التي نقلت الإنسان من أطار النمط الوحشي إلى النمط الحضاري ومهدت لبروز الكثير من التطورات الاجتماعية والعقلية.

ولعل الدين هو أهم تطور ساهم في تحريك ذهنية الإنسان بشكل واسع بعدما حمل وظيفة جديدة هي وظيفة طلب الرزق ولان طلب الرزق يرتبط بالإنتاج الزراعي بالدرجة الأولى فقد برزت الأرض بنموذجها ( الآلهة الأم ) كأول نموذج الهي عبده الإنسان في إرهاصة وعيه الديني حيث يلاحظ كثرة التماثيل أو الدمى التي ترمز إلى هذه الالاهة القديمة بحيث عثر على المئات منها في موقع واحد هو موقع قرية حسونة حدود منتصف الألف السابع قبل الميلاد لكن التطورات الاجتماعية ألاحقة وتعقد الواقع الاجتماعي أطلق الكثير من التصورات الدينية الجديدة وأهمها الإطاحة بالزعامة الأنثوية للآلهة واستبدالها بزعامة الذكور ثم ظهور التثليث أي الإيمان بوجود زعامة ثلاثية للكون بدأت إرهاصاتها في بلاد الرافدين منذ وقت مبكر من خلال الانوناكي الثلاث ( انو،انليل،أيا ) والتي انتقلت بعد ذلك إلى العديد من الديانات الأخرى كمصر والهند القديمة ثم ظهور الثنائية التي استثمرت مفهوم الصراع بين قوى الفوضى وقوى النظام ذو الأصل الرافد يني ليتمخض عنه النموذج الزرادشتي الممثل بقوتي الخير والشر قبل أن تبرز ظاهرة التفريد التي وضعت جميع الإلهة تحت سلطة اله واحد قبل أن يظهر التوحيد الذي الغي تعدد الآلهة لصالح الإله الواحد.

ومن الملاحظ أن جل التطورات الفكرية التي شهدتها المنطقة كانت تطورات دينية أو ذات علاقة بالدين حيث استمر ذلك إلى وقتنا الحاضر عكس ما حصل في أوربا مثلا التي شهدت اجتياز المرحلة الدينية والانتقال إلى مرحلة الفلسفة في وقت مبكر نسبيا بالرغم من بقاء التأثيرات الدينية وتواصلها صعودا وهبوطا عبر مراحل التاريخ لان الغرب الذي شهد ولادة الفلسفة اليونانية اضطر للانحناء للغزو الديني الشرق أوسطي وتقبل ذلك لقرون عديدة قبل أن تخضع المسيحية للتأثيرات الاجتماعية وتتحور تبعا لها من خلال اللوثرية والكلفنية وغيرها ثم جاء تيار النهضة الجارف ليحمل على بقايا الإرث الكنسي ويلقي به خارج التأثير بعد أن سجنه داخل المؤسسات المسيحية وإذا كانت أوربا قد تحررت من الدين المؤسسي فأنها أنتجت فقهها العلمي المرتبط بمسارها الصناعي وبالتالي يحق لهيغل أن يعطي أوربا الارجحية على الحضارات الأخرى لأنها من وجهة نظره أكثر الحضارات استجابة لمنطق التاريخ واقلها تأثرا بالعاطفة فهي حضارة عملية بامتياز ولذلك يصر هيغل على ربط الحضارات الأخرى بمراحل العقل السابقة حيث ربط الحضارة الشرق أوسطية بمرحلة الدين والأفريقية بما قبله طارحا ضرورة أن تقتدي تلك الحضارات بالمسار الغربي حتى تتحرر من أسرها التاريخي هذه الرؤية الهيغلية مثلت أساس المبدأ الحد اثوي الذي يؤمن بان للمجتمعات البشرية طريق واحد لابد لها جميعا من سلكه وليس كما يطرح ما بعد الحداثويون بان على الحضارات التمسك بموروثها والانطلاق منه إلى ما هو جديد معتبرين الحداثة وصفة أوربية محضة أو هي نتاج الواقع الأوربي وبالتالي منح الفكر القدامي روحا جديدة.

واخذ القديميون والبعد يون يبشرون به كأنه الأساس الذي يمكن أن تنطلق منه حالة النهضة الجديدة وهؤلاء يتناسون أن غاية الحداثة البعدية لدى الغرب تختلف عنها لدى العرب المسلمين بحكم اختلاف الحال الحضاري بين كل منهما لان بعدية الغرب هي محاولة لتجاوز الحداثة أو إيجاد حالة توازن بين قيم الحداثة ومتطلبات الروح فهي من حيث التكوين نتاج لعثرات الحداثة وسقطاتها وبفعل تجربة تمت معايشتها واستكناه خواصها عيانا أما لدى العرب والمسلمين فقد تكون مجرد سلاح يوجهه القديميون إلى خصومهم ويتحججون به ضدهم وقد تكون أيضا نتاج لمراهقة حضارية أو رغبة في تقليد الغرب ولكن في النواحي التي تخدم المنطق القدامي فالواقع العربي الإسلامي مازال يعيش مرحلة القدامة وهو بالتالي بحاجة للمرور بمرحلة الحداثة لكي يكون مؤهلا لتجاوزها أو استيعاب اللاحق ورغم أن مرحلة مابعد الحداثة تعد بحسب البعض مرحلة متقدمه عن الحداثة وليس حالة تراجع إلا أن نشرها في مجتمعاتنا يعد بالأجمال نوعا من أنواع التراجع لأنها تدعم القدامة ضد الحداثة.

وبالتالي فان التجديد الديني الذي يرتبط بالنسق ما بعد الحداثوي هو استسلام لمنطق القدامة قبل أن يكون له هدف أصلاحي ولعل معنى التجديد هو بحد ذاته إشكالية كبرى لأنه يعني أعادة الروح إلى شيء قديم أو هو أبقاء للقديم وتأخير مجيء الجديد الذي ينبع من أمام الدين التقليدي المتصل بمنطق الماضي لا الحاضر أو المستقبل الامر الذي قد يولد انتكاسات خطيرة في شتى مجالات الحياة كما حصل في محاولة النهضة السابقة أواخر القرن التاسع عشر التي انقلبت إلى انتكاسة مريعة بطرفة عين فمن كان يتصور أن تلك النهضة الواثبة والانفتاح الواثق سوف يتحول إلى تراجع كبير وانغلاق شديد أعاد ألينا كل روث الماضي وزعيقه البالي لان رواد النهضة حملوا هم التجديد الديني ليس بعقلية الجديد الطبيعي بل الجديد الذي يضمن بقاء القديم لا أكثر أي هو في قرارته جديد مزيف أو قديم برداء جديد وأخشى أن نقع في نفس الخطأ ونعيد الروح إلى الماضي كما اعدناها من قبل أو كما نعيدها دائما وهذه هي اشكاليتنا ما يعني أن دعوى التجديد ربما تكون بحد ذاتها أمرا خطيرا مالم تحمل معنا مباشرا بل الأساس هو أن نترك الماضي يموت أو نساعد على موته لكي ننتج الجديد النقي المتخلص من اسر الماضي ولعل قيام المذاهب الإسلامية بفتح باب الاجتهاد المغلق أو شبه المغلق سابقا هو في قرارته استشعار من موت المذاهب و تأكيد لمنطق التجديد المزيف الخالي من الدافع والإصرار وهؤلاء يمثلون تهديدا كبيرا لمنطق التطور بعد أن يفرغوه من حججه فالحلف غير المقدس بين الإسلاميين أصحاب الطرح التجديدي ومؤيدي ما بعد الحداثة هو السبيل الذي يعول عليه الماضويون في تقرير بقائهم بعد أن مني مشروعهم الماضوي بفشل ذريع أحال واقعنا إلى جحيم يمور بالاستبداد والجهل والتخلف ولم يبق إلا الاستعانة برؤى الغرب لدحض مفهوم التغيير الجذري الذي يلوح به الحداثويون وما دامت الحداثة قد تعثرت بالغرب كما يزعم أتباع ما بعد الحداثة فليس من السليم والمجدي اقتفاء أثرهم حتى نستبق المصير الذي وقعوا فيه وكأننا زاهدين بهذا الركام الكبير من التطور الذي هيا للغرب الشعور بالملل من التطور نفسه و الانطلاق بحنينهم إلى الحياة الروحية التائهة في وسط تيار المادة الجارف أي أن مراجعتهم للركام الحد اثوي لايعني نفورهم منه بقدر ما يعني شعورهم بالقلق على مصير حياتهم الروحية التي تمثل الملجأ من الوقوع في فخ الآلية أو المادية المحضة التي قد تطرح الإنسان مجرد مادة أو اله صماء لا روح لها وبالتالي هم يتجاهلون أهمية التجربة الغربية في أنتاج وعي المراجعة المبني على أسس مجربة وليس المراجعة الفارغة التي يلوح بها بعض مفكرينا لاستباق الفشل المفترض.

ولذلك لابد أن نركز على الحداثة كونها الأساس الذي يتأسس عليه الجديد وان نستفيد من تجربه الغرب الناضجة في إرساء معالم نهضة قويمة لان quot;الانتقادات الموجهة لمشروع التنوير من معسكر ما بعد الحداثة إتباع نيتشه لاتقف - كما يقول هابر ماز - على أرضية يعتد بها وفاقدة الحس بالاتجاه وربما (عدمية ) quot; أضف إلى ذلك أن مفكرينا الذين استوردوا نقد الحداثة من أساتذتهم الغربيين لم يطرحوا بديلا شافيا يمكن أن يعول عليه في انتشال مجتمعاتنا من وحل التخلف لان النقد لايعدوا قيما مالم يرتكز على بديل يحسم المسالة حسما نهائيا ولان هذا البديل غير موجود أو ما زال في ذهن أصحابه فلا يسعنا إلا بالارتكان على المجرب والملموس لأنه الكفيل بنقلنا من منطقة التخلف إلى منطقة التطور فما نحتاجه ليس مجرد نظريات أو أفكار بل شيء يقبل التطبيق لأنه وحده المجدي.

باسم محمد حبيب