عند فقد الإنسان لعزيز له لابد أن تطرأ عليه بعض الآثار النفسية وقد تتفاوت تلك الآثار نظراً لأهمية ومكانة الشخص المفقود، هذا على المستوى العام الذي يمر به جميع الناس، إلا أن هناك نوعاً آخر تختل فيه الموازين وتتغير لفقده الأحوال، ولذلك عبر القرآن الكريم عن فقد هذا النوع بأنه إنتقاص للأرض، كما قال تعالى: (أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب) الرعد 41.

وقد ذهب جمع من المفسرين إلى أن أحد وجوه تفسير هذه الآية هو موت العلماء أو أصحاب الشأن، ويؤكد ذلك قوله تعالى: (بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون) الأنبياء 44. وهذا السياق أظهر للمعنى وهو نظير قوله: (إنك ميت وإنهم ميتون) الزمر 30.

وقد نجد أحياناً أن الموازين الأرضية تأخذ المجرى المخالف لنصوص القرآن الكريم فقد تهرع الناس لموت أهل الضلال أو من يلحق بهم في عرف الأرض وهذا ما أكده النبي (ص) في قوله: [يأتي زمان على الناس الشريف فيما بينهم فاسق والفاسق فيما بينهم مستشرف] وهذه الحسابات الأرضية لا تعادل شيئاً عند الله تعالى، لذلك أشار إلى هذا النوع الهالك بقوله: (فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين) الدخان 29. وفي الآية مباحث:

المبحث الأول: ذكر جمع من المفسرين أن النبي (ص) قال: ما من عبد إلا وله في السماء بابان، باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل فيه عمله، فإذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا هذه الآية ثم قال: وذلك لأنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملاً صالحاً، فتبكي عليهم ولم يصعد إلى السماء كلام طيب ولا عمل صالح فتبكي عليهم. إنتهى.

المبحث الثاني: يحتمل سياق الآية حذف المضاف ويكون المعنى مابكى عليهم أهل السماء ولا أهل الأرض، يعني لم تبكيهم الملائكة ولا المؤمنون، بل أن موتهم جلب السرور لأهل الأرض والسماء كما هو الحال في موت الطغاة. وحذف المضاف كثير في القرآن كقوله تعالى: (واسأل القرية التي كنا فيها........الآية) يوسف 82. أي إسأل أهل القرية. وكذلك قوله: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها..........الآية) الإسراء 16.

المبحث الثالث: سياق الآية يحتمل المجاز، وهذا من عادة العرب في الكلام فهم في حالة فقدهم للشخص العظيم يقولون بكت السماء وأمطرت دماً وهذا نوع من المبالغة في تهويل الأمر، كقول جرير:

الشمس طالعة ليست بكاسفة******تبكي عليك نجوم الليل والقمرا

والآية المبحوث عنها تشير إلى هذا النوع من الذين يستعظمون أنفسهم ظانين أنه في حالة موتهم تبكي عليهم السماء والأرض، والأمر ليس كذلك فأنزل منزلة التهكم، كقوله تعالى: (ذق إنك أنت العزيز الكريم) الدخان 49. ولذلك ختم تعالى الآية بقوله: [وما كانوا منظرين]أي عند مجيء وقت هلاكهم لا يسمح لهم بالتوبة لأن التوبة لا تقبل عند التيقن من الموت لهذا الصنف من الناس، كما قال تعالى رداً على توبة فرعون: (آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) يونس 91.

فإن قيل: لماذا لم يقل تعالى السموات بالجمع لأجل أن يكون أبلغ في التهكم؟ أقول: إن ما ظننته هو الصواب بعينه إلا أن النكتة التي لم تحسب حسابها هي أن السماء أكبر من السموات وليس العكس لذلك فالتهكم لم يفقد المبالغة وهذا كقوله: (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع.........الآية) الحج 15.

ولأجل تقريب المعنى إلى الأذهان نحتاج إلى الإطناب في الدليل، يقول تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين) آل عمران 133. فهذه الجنة التي أشارت لها الآية الكريمة وصفت بأن عرضها السموات والأرض مهما إختلفت الآراء التي قيلت في العرض ومهما كان نوعه في حين أن قوله تعالى: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) الحديد 21.

والمتأمل في الآيتين يظهر له أن الجنة المعدة للمتقين لابد أن تكون أصغر حجماً من الجنة الثانية المعدة للذين آمنوا بالله ورسله لأن أعدادهم أكثر من المتقين والأولى وصفت بأن عرضها السموات والأرض والكبيرة وصفت بأن عرضها السماء والأرض ولذلك قال في الأولى وسارعوا التي تفيد الجري المتقن الذي دأب عليه المتقون دون السباق الذي يقتضي تفاوت المراتب ولذلك قال تعالى في المسارعة: (يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً ذلك حشر علينا يسير) ق 44. وقوله [سراعا] يفيد الخروج من الأرض دفعة واحدة بالتساوي لكل من هم بداخلها أما في السباق فقد قال: (واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدا الباب.......الآية) يوسف 25. والمعنى ظاهر في أن السباق يقتضي أن هناك من يتقدم ومن يتأخر.

ولذلك قال في الحديد [سابقوا] وكأن الأمر فيه نوع من الترغيب في السباق إلى ترك الموبقات التي تلحق الإنسان جراء المعاصي التي تلم به ويؤكد ذلك ذكر الصفات اللاحقة التي ذيلت بها الآيتين ففي صفات المتقين قال بعد وصف الجنة الخاصة بهم: (الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ........الآية) آل عمران 134. وهذه الصفات لا تنطبق على من يؤمن بالله ورسله دون التقوى أما في الحديد فقد ذيل الآية بقوله: [ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم] فدل على أن هذه الجنة فضل منه تعالى لا عن إستحقاق تصاحبه التقوى والدليل الآخر على أن الذين في آل عمران أفضل من الذين أشارت لهم آية الحديد هو مجيء الواو الذي لم يأتي في الحديد وهذا الواو نجده دائماً في القرآن يرافق المتقين كما في قوله: (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها.........الآية) الزمر 73. فقوله [وفتحت] جاء مع المتقين فقط أما الذين كفروا فقال [فتحت أبوابها] دون الواو لأن في الواو خدمة عظيمة للمتقين وقد حرم منها الصنف الآخر فتأمل.

وقد كرر هذا الواو أيضاً مع الذين هم على علم بعدد أصحاب الكهف في قوله: (ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم) الكهف 22. في حين أن القولين السابقين لم يأتي فيهما الواو الذي يفصل عددهم عن الكلب. فكل هذا يفيد أن السماء أكبر من السموات ولذلك فالسماء أعم من السموات لأن كل ما علاك فهو سماء ولأجل أن نقرب المعنى أكثر نؤكد ذلك بقوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين) فصلت 11. ثم قال (فقضاهن سبع سموات في يومين.....الآية) فصلت 12. والمعنى ظاهر في أن السموات السبع أستخرجت من السماء الأصل الذي عين في الإستواء.

لذلك فإن قوله: [فما بكت عليهم السماء والأرض.......الآية] أبلغ في التهكم بعد أن علمت أن السماء أكبر من السموات. فإن قيل: لماذا إذاً جاء قوله: (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق***خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد) هود 107. وكذلك في أهل الجنة قال: (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاءً غير مجذوذ) هود 108.

أكرر لماذا السموات بالجمع؟ أقول: في هذين الآيتين أراد سموات الجنة والنار وأرضيهما والكلام على حقيقته كقوله في وصف يوم الحساب: (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار) إبراهيم 48. فالكلام هنا لا يحتمل المبالغة وقد تجد ظهور قدرته تعالى في قوله: (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين) الأنبياء 104. ولو كانت السموات أكبر لذكرت في هذه الآية التي تدل على عظيم قدرته تعالى.

فإن قيل: لماذا لم يجمع الله تعالى الأرض مقابل السموات التي تأتي معها في الغالب؟ أقول: أين ما وجدت الأرض مع السموات فالقصد أنها الأراضين بالجمع وقد أشار القرآن الكريم إلى الأرض مجموعة مرة واحدة في قوله: (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن.........الآية) الطلاق 12. وقد ترفع القرآن عن لفظ الأراضين لأنها لغة ضعيفة وغير مستأنسة لدى العرب رغم أنها صحيحة وقد وردت في الأدعية وهذه من الكلمات التي تجنبها القرآن الكريم إضافة إلى الآجر وهو الحجر المستعمل في البناء فلم يذكره تعالى رغم إستعمال العرب له لذلك قال: (وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين) القصص 38. فذكر تعالى الطين بدلاً من الآجر.

عبدالله بدر إسكندر المالكي
[email protected]