زحف الظلام على الكويت و تحولها لمركز تجارب دينية متعسفة و صارمة بدلا من أن تكون مركزا إستثماريا دوليا مهما كما كانت الرغبة ألأميرية الصريحة و المعلنة، لا يمثل ردة بقدر ما يعبر عن إنتكاسة حقيقية ليس على المستويات الفردية بل على المستوى الشعبي العام، ولعله من نافلة القول الجزم بأنه لم يكن يتصور لأحد في يوم ما أن تسير الكويت بثبات في الطريق إلى ( قندهار )!! أي أن تتحول لدولة أصولية متشددة تتحكم بها التيارات الدينية و المذهبية المتطرفة، وهو ما يتناقض بالمطلق مع الشخصية الكويتية المتسامحة ومع ثوابت التاريخ الكويتي الحديث الذي جعل من الكويت قلعة شامخة من قلاع الحرية، لا بل أن ملحمة البناء الوطني الكويتي قد تجسدت مع رفض الإملاءات و التشكيك بهوية وعقيدة و توحيد أهل الكويت و التصدي الحازم الشعبي و الرسمي لكل من أراد الشر بالكويت أو محاولة النيل منها و من وجودها الوطني المستقل، ولعل قرار التعتيم و ( منع التجول ) و إغلاق المقاهي بعد منتصف الليل و تحويل الكويت لمدينة أشباح قد أتى في توقيت و مناخ غير مناسبين بالمرة، وهي قرارات غريبة و منفصلة بالمرة عن التفكير و التخطيط الستراتيجي الرسمي للدولة و التي أعلن عن فحواه العام أكثر من مرة سمو أمير الكويت الحريص على تحويل الكويت لمركز مالي و إستثماري مهم في المنطقة و بما يتناسب و الدور التاريخي و المكانة الإعتبارية المهمة التي تحملها الكويت في الشرق الأوسط، و أنا أتامل في القرارات التعسفية ألأخيرة توارد إلى ذهني على الفور من أن شهر أكتوبر بالذات يحمل ذكرى وطنية و تاريخية كويتية لها دلالاتها التي لم يهتم بها الإعلام الكويتي للأسف و تجاوزتها الصحف المحلية وداس عليها الزمن بغباره الثقيل و أدت حالة المشاحنات الداخلية في الكويت لجعلها نسيا منسيا،وهي ملحمة الصمود و الوجود و التألق الوطني الكويتي الحديث في معركة ( الجهراء ) التاريخية التي جرت فصولها الملحمية في العاشر من أكتوبر عام 1920 و التي شكلت على صعيد عملية التشكل الوطني في الكويت رقما صعبا و مفصليا، فتلك المعركة التي قدم فيها شعب الكويت تضحيات و خسائر كبرى و شهداء بلغ عددهم حوالي 370 شهيد و مئات الجرحى و المصابين قد أفرزت تلاحما وطنيا مدهشا و مثيرا للإعجاب تمثل في رفض الظلم و الإملاءات الخارجية و التشكيك في تدين و تقية وورع و إلتزام أهل الكويت بالإسلام الحنيف، فكانت مطالب جيش المتطرفين ( الإخوان ) بقيادة فيصل الدويش و جماعته لأهل الكويت بالعودة لما أسموه بالدين الصحيح تمثل إبتزازا واضح المعالم، لأن أهل الكويت مسلمون و لا يحتاجون أبدا لمن يعطيهم شهادةبذلك فالمساجد ودور العبادة هي من أهم مميزات الحياة الكويتية و محاولة تصيد بعض المخالفات الفردية و جعلها أساسا لتقويم سلوك الناس هي مغامرة غير مأمونة العواقب و ما أشبه اليوم بالأمس!!، لقد كانت أهمية معركة الجهراء أنها قد وحدت الضمير الشعبي الكويتي الرافض للتعنت و التطرف فكان الشهداء من مختلف قبائل و عوائل الكويت، كانوا من العوازم و الخوالد و عنزة و شمر و من آل الديحاني و العتيقي و الشملان و العدواني و الرشايدة و المطيري و المطوطح و الدويلة و العجمي كما كانوا من عموم الشعب و من الشيوخ كالشيخ الشهيد جابر العبدالله الصباح الذي قضى دفاعا عن القصر الأحمر الشهير، وكذلك لم تخل قوائم الشهداء من المرأة الكويتية التي كافحت بإصرار وكان لها دورها الحاسم منذ القدم وحتى مقاومة الغزو العسكري العراقي عام 1990 ففي معركة الجهراء ذكر لنا التاريخ أسماء ثلاثة شهيدات قتلن في تلك المواجهة هن :

هيا إبراهيم العساكر

حسنة مبارك الخشاب

بنت أم جلاد الطوالة

وكانت أيام تضامن ملحمية أسست و رسخت البناء الحقيقي للتجربة الكويتي القادمة التي كانت قوة زخمها في أواخر خمسينيات القرن الماضي و بلغت الذروة مع السبعينيات و حيث إستكملت كل مراحل البناء الوطني الشامخ الذي جعل من الكويت واجهة تجارية و سياسية ودبلوماسية مهمة كان لها دورها الفاعل في دعم القضايا العربية المصيرية و المشاركة في حقن الدماء العربية في اليمن و الأردن و فلسطين و غيرها، وكانت الكويت هي يد العطاء التي عمرت المدن و الجامعات و الشوارع العربية و أضاءت القرى البعيدة من سواحل الأطلسي غربا وحتى أقاصي حضرموت جنوبا، وكانت الكويت ما غيرها هي الملاذ الآمن لحركات التحرر الوطني في فلسطين و أرتيريا قبل أن يدور الزمان و يفرز الغدر عصاراته الثقيلة، تلك الكويت التي كانت في الماضي القريب جوهرة الخليج العربي بإنفتاحها و توهجهها و إستيعابها السريع لكل التطورات الحضارية المتسارعة هي اليوم بصدد التحول لكيان مغلق على ذاته يعيش تحت قرع طبول التهديدات المستمرة و التناحرات المذهبية البغيضة بعد أن تسربت للأسف بعض أشكال الصراعات و تصفية الحسابات بالقوة، و الكويت التي كافحت كثيرا للتقريب بين إشكاليتي الديمقراطية و الأمن، وعانت من نتائج غزو و إحتلال تدميري تمكنت من التخلص منه بأثمان غالية أقتطعت من إحتياطي الأجيال القادمة و ترك مؤثرات و تأثيرات نفسية مهمة للغاية في الضمير الجمعي، تعيش اليوم في مفترق طرق حاسم، فأول الرقص حنجلة كما يقولون ؟، و قوانين التعتيم و منع التجول و إغلاق المقاهي و أماكن الترفيه سيعني بالضرورة لجوء البعض لخيارات أخرى يمكن التكهن بنتائجها!، التجربة الكويتية على المحك، و الكويتيون أمام خيارات حاسمة و تقاطع طرق تاريخية واضحة المعالم، وسر الوجود الكويتي الحديث يتعلق بتقديس الحرية المسؤولة التي لا تعني الإنفلات و لا الفوضى، و تكوين محاكم تفتيش جديدة في عصر الحريات العولني هو واحد من أعجب متناقضات الحالة في الكويت... فو أسفاه يا كويت الحرية و الإلتزام و التقدم و الإنفتاح.. و لكننا في النهاية على ثقة تامة من أنه لا يصح في النهاية إلا الصحيح.!

[email protected]