(( كلَّ ما ثبتَ بالجدل فإنَّه بالجدل ينقض ))

ابن حــزم


يعدُ القرن العشرين إنموذجاً حياً لتبلور عددٍ من النظريات التي تعكزت على الدين الإسلامي بشكل نفعي لتعصترَ من تراثه ما يُصطلح عليه اليوم بالإسلام السياسي، و بصرف النظر عن المرجعية القرائيِّة لتلك النظريات إن كانت شيعية أو سنية فإنه من الوارد جداً أن يعتري التغيِّرُ وربما الإختلاف جملةً من المفاهيم والأنساق المعرفية المُشكِّلة للبنية التحتية العميقة المقامة عليها نصوصُ الإسلام السياسي والتي ربما إعتقدنا في زمنٍ ما أنَّها ذات دائرة دلالية مكتملة أو أننا على أقلِ تقدير إنتهينا من فرزها وتأصيلها داخلَ حقلٍ مفهوماتي واضحَ المعالم، ولعلَّ اهم النقلات النوعية التي مرَّت بها مسيرة الفكر الإنساني كانت مبنيةً إمِّا على إعادة قراءة وتفسير ما إعتقد أنَّه محسومٌ دلالة ومعتقداً، أو على إبدال المنظومات القيمية وتقويضِ الأفكار المتقولبة كأحدِ أهم إشتراطات التفكير الحر. تأسيساً على ذلك لابدَّ من الدعوة الى إعادة النظر في جاهزية البنى والمرتكزات المعرفية التي تقومُ عليها فكرة الإسلام السياسي لاسيَّما وأنَّ أهمَ ثوابتها، مثلُ علاقة الفكر السياسي الإسلامي بالدولة أو مفهوم الأمة والقيم الحاكمة لحياة الفرد داخله، ما انفك يتأرجح بين معطيين رجراجين الأول هو التاريخي ذي الطبيعة الشائكة المكتنزة بعقد وتخثرات خلافية تستبطنُ إستحالة الإتفاق عليها، و سرعان ما تُستدعى لتُقتطع من سياقاتها الزمنية وتُتخذ حجة تُستنبت عليها قناعات وعقائد دينية تُخضع الإنسان لآيدلوجيا تأويلاتها المغرمة بتكفير الآخر كمقدمة لتصفيته جسديّاً، أمَّا المعطى الثاني فهو الراهن المحكوم بالفشل لأنَّ جلَّ تمظهراته تأسست في أجواءٍ من الصراعات والحروب الأهلية على إختلاف دوافعها ومسمياتها.

الإسلام السياسي في صورته التي تشكَّلت في العراق هو ليسَ أكثر من أمنياتٍ تصاغ بأساليب بلاغية مستهلكة ومداليل ذات خلفيات ميتافيزيقية لا تمتُ بصلة لأرض الواقع ولا لحركة التاريخ السياسي الواجب خضوعها لما يحيط بها من متغيرات تدريجية أو سريعة مباغتة. إنّهُ فكرة باتت عاجزة عن تأسيس نظامها المفهوماتي المتسلسل و لم تنجح في إيقاف الخط التصاعدي لإتساع الهوة بينها وبين العراقيين على إختلاف قومياتهم وطوائفهم، وهي مدعوة الآن لإختبار مرجعيَّاتها وتصحيح مساراتها عبر وقفة تأملية مجردة عن أية منطلقات سابقة تستنطق واقع العراق الجغرافي أو الطوبوغرافي و تقولبه بما ينسجم وتصوراتها الأيدلوجية، لأن هذا المنهج أصبح مكشوفاً وهو في تآكلٍ مستمرٍ وعقمٍ مركب أفقده أبسط مقومات الإستمرارية والثبات، فضلاً عن كون المتلقي بدأ يتعاطى معه بوصفه فكرة تسيء للأسلام وتحوّله من منهجٍ قويم الى شعار سياسي تعبوي يستخدم الدين براغماتياً لإستغلال بسطاء الناس وتحريكهم عاطفياً.

مِنَ بين الإسلاميين السياسيين مَن حاول الإشتغال على موضوعة فك الإرتباط بين السياسي والديني بالإعتماد على التنقيب عن بذور فكرة المجتمع المدني ومحاولة أسلمة الحداثة، ثمَّ تحديث طرائق قراءة التاريخ السياسي للإسلام بأساليب ومناهج لاتُخرِج النص عن دائرته الزمانية ولاترسِّخ أيَّ مظهرٍ من مظاهر هيمنة العقل السلفي على التراث، حيث ركَّزَ على تفكيك و تعرية هذه الهيمنة التي جعلت من العقل اللاحق أسيراً لها، فصادرت حقه في أن يحددَ ملامحَ حاضرهِ بشكلٍ يتغايرُ مع ما إختارته رؤى وقراءات سبقت وجوده بقرون، وكأن ما أنتجته عقلية السلف من متون أصبح مساوياً للنص ذاته من جهة قدسيته، على الرغم من وجود عددٍ غير قليل من هذه المتون والشروحات لسنا في مورد ذكرها الآن كان سطحيَّاً مكرراً لدرجةٍ جعلته يسيء الى نصوص عظيمة ويحط من شأنها وقيمتها. على إنَّ ما يؤخذ على مَن مثَّل هذا الإتجاه هو أنَّه فشلَ في تنظيم مساحة حريَّته الفكرية فخلق لنفسه حرية غرائبية بهوية ضبابية غامضة الملامح حيث تبدو تارة في صورةٍ تتقاطع مع الدين أو تتعالى على جزءٍ مما يمكن وصفه بالثوابت لدى العقل الجمعي لغالبية معتنقيه، وتظهر تارة أخرى وكأنها ترمي لخلق إنسانٍ ساذجٍ عليه أن يتخلى عن ذاكرته كاشتراط يؤهله لدخول الحاضر، مما أدّى بتلك الطروحات الى أن تأخذ على أنها تنوي فصل الدين عن المجتمع وليس عن السياسة. الى جانب ذلك هناك رؤية سياسية ذات أرضية فلسفية مسرفة في مثاليتها، كما لو أنها موجه الى أناس صُمموا على مقاييس إلهيّة، تبنتها شخصيات سياسية بأسلوب نظري صرف جرَّدَ الواقع لدرجة عصية على حيز التطبيق، رؤيةٌ حصرت الواقع السياسي العراقي في إطارها لأنّها بالنسبة لأصحابها الإستحقاق الوحيد المبرر بمقولة الأغلبية، على الرغم من كون مصوبات الحراك السياسي أو خطأها لايمكن أن تقرر نهائياً على أساس مبدأ الكثرة.

يبدو إنَّ العزلة التاريخية طويلة الأمد التي سبقت دخول الإسلام السياسي في العراق مراكز صناعة القرار أو إنتاج السلطة جعلته يتحرك ومنذ بداية نشاطه في هذا الميدان تحت تأثير هاجسين الأول هو إرضاء العوام مما أدى به الى أن يتمسك بجملة من الظواهر السطحية التي أساءت لماهيِّة علاقته بالناس وجمَّدت عوامل نموه، والثاني هو نقل أو إستقدام تجارب سياسية أخرى لا يمكن لها أن تنجح في العراق لأسباب لا تخفى على القاريء، ولذا لم نرَ من بين ممارساته في العراق ما يشير الى تطورٍ فكري على مستوى التنظيم أو الإدارة لموضوعات ومشكلات كبيرة كانت تعرضت للخيانة والإنتهاك وهي ترزح تحت نظامٍ دكتاتوري مقيت، من قبيل (حقوق الإنسان، سؤال المرأة، العدالة وتنظيم الحريات، التربية والتعليم، وغيرها مما لا مجال لحصره الآن )، بل على العكس من ذلك إذ أقدمَ على ممارسات حادت بالدين عن مضمونه الإنساني العميق القائم على مبدأ الحرية وأقحمته في متاهة من الإجتهادات التي حاولت فاشلة أن تلتصق بفكرة الشرعية الإلهية، لتسوغ إستبدادها أو إنفرادها بالسلطة السياسية. (عقل) سياسي كل ما يمكن أن يقالَ عنهُ هو أنَّه نجح نجاحاً باهراً في إستدعاء كل الخلافات التاريخية ونقلها الى الواقع اليومياتي المعاش، ثمَّ جعلها خلافاً في الموقف من العصر، و آيدلوجيا أنتجت ذواتاً متضخمة ترى نفسها أعلى من كل ما يحيط بها حتى أصبحت أهم حاضنة للتناحرات دفعت بالدين باتجاه الإرهاب و تصدير الموت، أوَّلته سياسياً وأخضعت الراهن للتاريخي لتسويغ عقل مسطح فوضوي قمعي سريع العطب كل ما يؤرقه ينحصر في كيفية الإستحواذ على السلطة وجعلها من يملك الحق المطلق في التمييز بين الثابت والمتغير ومن هنا تُحوّلُ كلَّ ما تتبناهُ من مقولات الى ثوابت لا مجالَ لمخالفتها.

إنَّ الدور السياسي الذي لعبته الأحزاب الإسلامية العراقية بعيدَ سقوط الدكتاتورية لم يكن منسجماً أو متصالحاً مع البناء الفقهي السياسي المرن الذي إدَّعت الإنتماء إليه إبان معارضتها للنظام الدكتاتوري البائس، فقد إحتكرت السلطة و عرَّضت قداسة القيم الدينية والأخلاقية للشك والتساؤل من قبل عامة الناس قبل خاصتهم، إذ إكتفت بالقيام بدور القاضي الملتصق بالشرعية الإلهية الذي يحل ويعقد بالإعتماد على وعي إشكالي ملتبس لا يتوانَ عن أن يرفض اليوم ما كان زيَّنه بالإمس من مفاهيم. أمَّا ما يحسب لهذه الأحزاب التي ملأت الفراغ السياسي في العراق فهو ما قدمته من براهين صريحة ومصاديق عملية على ضرورة تحرير الفكر السياسي العراقي من التعصب الديني الذي حوَّلَ التاريخ الى حقول ألغام متجاورة، وحجَّرَ الفكر الديني متناسياً كونه إجتهاداتٍ بشرية هدفها فهم النص المقدَّس، ثمَّ أخرجَ الإسلام من صيرورته الإجتماعية المتجددة حتى أصبح ماترتدي المرأة من زي يمثّل مظهراً سياسياً.

بقي أن نتساءل عن مستقبل المشروع السياسي الإسلامي في العراق، هل هو مشروع بلا نخب أو جماهير واعية لأنهم لايشعرون بالإنتماء إليه، وما هي المعادلات الموضوعية لهذا المشروع؟

[email protected]