لم يکن أي نظام فکري سياسي مثير للجدل و التساؤلات في المنطقة بوجه خاص و العالم بوجه عام، مثلما هو الحال مع النظام الراديکالي المتشدد في إيران.


وإذا ماکان الشاه الراحل محمد رضا بهلوي قد أثار أيضا الکثير من الجدل و القلق في المنطقة بشکل خاص بسبب من تطلعاته للبروز کقوة إقليمية تجنح أحيانا الى إکتساب مسحة عالمية، لکن وفي نفس الوقت ليس بالامکان أبدا التغاضي عن العمق الحضاري لإيران و تأثير و إنعکاس ذلك في أعماق الشعب الايراني وکل إيراني يتذکر وليس بالامکان أن ينسى أن إيران کانت تشکل في يوم من الايام واحدة من القوى العظمى الثلاث في العالم ومن هنا فيجب على المتابع و المراقب للشأن الايراني أن يتقبل هذه الحالة کمسألة عادية هي بالاساس حاصل تحصيل تراکم تأريخي عميق الجذور و عظيم التأثير، لکننا هنا عندما نتمعن في تطلعات النظام الشاهنشاهي ونقارنه بتطلعات النظام الحالي في إيران فإننا سنصطدم بجملة حقائق أبرزها أن نظام الشاه برغم کل طموحاته و تطلعاته الجارفة للبروز غير أنه لم يسع للخروج على السرب الدولي بشکل غير عادي وانما کان يحاول حثيثا بناء دولة عصرية متقدمة من کل النواح بالتناغم و التعاون مع الدول الکبرى، في الوقت الذي نجد فيه النظام الحالي قد سعى و لازال يسعى للبروز على الصعيدين الاقليمي و الدولي وفق أسس و مرتکزات خاصة انشئها و إختطها لنفسه بعيدا عن العالم برمته، نظام بني على أساس(نظام الله المختار)الذي يجب على العالم القبول به وليس هناك من خيار آخر سوى القبول به.

وعندما نقول نظام الله المختار، فإننا لانطلق هذا القول جزافا أو نتکلم من فراغ، إذ انه بني أساسا على نظرية ترجع أصل السلطة و روحها الى السماء و تعتبر و بناءا على جملة تفسيرات مذهبية ضيقة لبعض المباني الفقهية ان المرشد الايراني أو الولي الفقيه يمثل حاکمية الله المطلقة على الارض ومن خرج عليها أو رفضها فإنما يخرج على الله ذاته! والامر الثاني الذي يجب هنا أن نشير إليه هو ان نظام الشاه حاول من خلال سياسة مبنية اساسا على توطيد علاقات استراتيجية مع الغرب و بناء جيش قوي ناهيك عن بنية إقتصادية تحتية فرض وجود و دور بلاده على دول المنطقة بشکل خاص، في حين ان النظام الديني في طهران قد سلك منحى آخرا مثيرا للجدل و القلق معا، حيث سعى لفرض هيمنته و سطوته و بسط نفوذه على دول المنطقة و العالم من خلال اسلوب آخر مختلف تماما عن اسلوب الشاه التقليدي و المقبول الى حد ما وفق الاعراف الدولية، إذ عمد النظام الحالي الى زرع خلايا و تنظيمات و حتى إتجاهات فکرية و سياسية موالية له في مختلف بلدان المنطقة وفي کل بلد بصيغة قد تختلف بعض الشئ عن دولة أخرى لکنها في نهاية الامر تلتقي معها في المحصلة النهائية من کونها تخدم أهداف آيديولوجية سياسية محددة مخصصة اساسا لدعم النفوذ الايراني و فرضه على دول المنطقة کأمر واقع. ان النظر الى تنظيمات و احزاب و حرکات و تجمعات فکرية ثقافية ظهرت و تقوت بشکل ملفت للنظر بعد مجئ هذا النظام و بقائه في السلطة منذ عام 1979، والغريب ان نفس المنطق القائم اساسا على مبدأ الابتزاز يستخدمه النظام الايراني مع دول الغرب من خلال إستغلاله لأعداد محددة من الجاليات المسلمة المتواجدة هناك لإعدادها و توظيفها بنفس السياق.


والمسألة التي ميزت النظام الديني الحالي عن النظام الملکي السابق من حيث إعتمادها کأساس استراتيجي رئيسي في بناء و ترسيخ مرتکزاته وفرضه کأمر واقع على العالم من حيث کونه قوة دولية يجب الاقرار بها و الرضوخ لإملائاتها، هي الملف النووي الذي أثبتت الايام عدم مصداقية طهران في تعاطيها و تعاملها مع المجتمع الدولي بخصوص نواياها واهدافها الحقيقية من وراء ذلك والتي تظهر يوما بعد آخرا بشکل جلي للعالم، فأغلب التقارير الاستخبارية المعتمدة و الموثوقة تؤکد بشکل او بآخر أن طهران قد صارت على مشارف إمتلاك السلاح النووي. ان النظام الراديکالي الاسلامي في طهران قد تجاوز سلفه بمراحل و تعدى مايمکن ان نسميه بخطوط حمراء محددة في علاقاته و صيغة تعامله مع دول المنطقة و العالم بشکل عام وبرغم کل السياسات الدولية المتبعة ضد تطلعات و نوايا هذا النظام فإنه للأسف لايبدو في الآفاق أية مؤشرات تبعث على الاطمئنان من حيث لجم و کبح تلك التطلعات و النوايا سيما وان السياسة البالغة الميوعة للرئيس الامريکي باراك اوباما و السياسة القلقة غير المستقرة على قرار محدد لدول الاتحاد الاوربي و سياسة دول المنطقة المتسمة بطابع من التوجس و التقوقع على ذاتها، کل ذلك منح للنظام الديني تفويضا غير مباشر بالمضي قدما في سياساته للوصول الى أهدافه النهائية التي قطعا ليست ولن تکون أبدا في صالح دول المنطقة وان السياسات التي أعتمدها منذ بداية إستلامه للسلطة وحتى الان تثبت أن هناك تقاطعا بينه و بين بعضا من دول المنطقة بشکل خاص سيستمر وبشکل متوازي وهو امر يبدو ان المنطقة قد بدأت مؤخرا من التأکد منه کبديهية لاتقبل النقاش. لکن، هل أن دول المنطقة قد صارت مجرد ظل للصراع الغربي مع طهران وليس لها أية قدرة أو دور على المناورة؟ انه سؤال مهم وحري التمعن و التأن قبل الاجابة عليه.