في جميع الدول الديمقراطية والمجتمعات المتمدنة، تشكل ظاهرة التنوع القومي والديني والثقافي واللغوي عامل ثراء وغنى وطني،لكن في سوريا تبدو الصورة مختلفة تماماً،حيث أضحت ظاهرة التنوع التي يتصف بها مجتمع الجزيرة السورية (محافظة الحسكة)عامل نقمة على أبناء هذه المحافظة وسبباً لمزيد من الإهمال الحكومي لها من حيث الخطط والبرامج التنموية والخدماتية والرعاية الصحية والاجتماعية.فمحافظة الحسكة التي تقع في أقصى الشمال الشرقي على الحدود التركية العراقية هي أكثر المحافظات السورية فقراً وفيها أعلى نسبة بطالة،بحسب التقارير الرسمية،رغم أنها، بفضل انتاجها من الحبوب والقطن والنفط، تشكل العمود الفقري للاقتصاد الوطني لسوريا. فمنذ ستينات القرن الماضي يعاني سكان محافظة الحسكة السورية،وهم خليط من العرب والأكراد والآشوريين(سريان- كلدان) وأرمن وايزيديين،من وطأة قوانين جائرة واجراءات استثنائية تتمحور حول quot;سياسة التعريبquot; الشوفينية التي أنتهجهتها وتنتهجها الحكومات السورية، والهادفة الى محو الهويات الثقافية والقومية لغير العرب. يأتي في مقدمة هذه الاجراءاتquot;قانون الاحصاء الاستثنائي لعام 1962quot; والخاص بمحافظة الحسكة، الذي بموجبه حُرم من غير وجه حق عشرات الآلاف من الكورد السوريين ومعهم عشرات الأسر الآشورية(السريانية) من حق الجنسية السورية، بذريعة أنهم تسللوا من تركيا إلى سورية بعد رسم الحدود بين البلدين في عشرينات القرن الماضي. هذا الإجراء التميزي حرم المجردين من الجنسية من أبسط حقوق المواطنة ومن الحقوق المدنية والسياسية(حق التوظيف، وحق التملك، وحق الانتخاب والترشيح)، وغيرها من الحقوق المدنية التي أقرها الدستور السوري و المواثيق والعهود و الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان التي صادقت عليها الحكومات السورية.كذلك تسبب في حرمانهم من حق الانتفاع من قانون الإصلاح الزراعي الذي وزع بموجبه الأراضي على الفلاحين.


ربما،كانت هناك حالات تسلل من تركيا الى داخل الحدود السورية بدوافع اقتصادية واجتماعية،لكن قطعاً لم يكن تعداد المتسللين بعشرات الألوف كما ادعت السلطات السورية.واعتقد بأنه لم يكن صعباً على السلطات آنذاك اعادة المتسللين الى من حيث أتوا لطالما هي زعمت بأنها كانت تعرفهم بالأسماء والأرقام.لكن ادعاءاتها كانت مجرد مزاعم باطلة لتبرير سياساتها العنصرية والشوفينية تجاه السوريين من غير العرب من الكورد وغير الكورد. ففي ذات العام(1962) الذي تم فيه الاحصاء الاستثنائي والذي استهدف النيل من quot;القومية الكرديةquot;،أقدمت السلطات السورية وبالدوافع الشوفينية والعنصرية ذاتها على إغلاق المدارس والمؤسسات والنوادي الآشورية (السريانية) في محافظة الحسكة وذلك بهدف تقويض ووئد النهضة الثقافية والاجتماعية التي بدأها الآشوريون السريان في سوريا.وفي اطار سياسات التعريب التي تعززت بعد انقلاب حزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة 1963 نفذت السلطات السورية quot;الحزام العربيquot; عام 1972في المناطق ذات الكثافة الكردية والآشورية في منطقة الجزيرة وذلك بهدف تغيير الواقع الديمغرافي في المحافظة لصالح العنصر العربي.فقد جرد هذا الحزام آلاف العائلات الكردية والآشورية من أراضيها الزراعية ووزعت على عرب أتي بهم من محافظات ومناطق سورية بعيدة.
بلا ريب،أن الاجراءات والقوانين التميزية وسياسات التعريب والتمييز والتفضيل التي انتهجتها و تنتهجها الحكومات السورية بحق السوريين من غير العرب تركت آثار سلبية على عملية الاندماج الوطني و كرست مفهوم الأقلية والأغلبية في المجتمع،تالياً أفرزت quot;معضلة الأقلياتquot; في البلاد حتى أضحت جرحاً وطنياً ينزف.اذ،يوجد اليوم نحو ربع مليون كردي من غير جنسية يعيشون في بؤس تام على هامش المجتمع السوري وخارج دورة الحياة الوطنية الطبيعية بجوانبها المختلفة،الاقتصادية والثقافية والسياسية.آشورياً، تسببت الاجراءات الشوفينية وسياسات التمييز القومي وتراجع الأوضاع المعيشية في هجرة حتى الآن أكثر من ربع مليون آشوري(سرياني-كلداني) من الجزيرة السورية وحدها الى الدول الأوربية وأمريكا، الأمر الذي سبب خللاً ديمغرافياً كبيراً في التركيبة السكانية لمحافظة الحسكة،فضلاً عن أن هجرة هؤلاء شكل خسارة لطاقات وعقول وطنية ومهارات صناعية متميزة كانت الجزيرة السورية والوطن السوري بأمس الحاجة اليها،كما أن سياسات التعريب والتمييز أصابت الآشوريين السوريين عموماً بخيبات أمل وطنية وقومية كبيرة وجعلتهم يعيشون في حالة اغتراب وطني.


بعد زيارة السيد الرئيس بشار الأسد الى محافظة الحسكة 2002 وتوصيات المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث الحاكم صيف عام /2005/ بحل قضية المجردين، تأمل ابناء المحافظة أن تولي الحكومة اهتماماً خاصاً بأوضاع محافظتهم المهملة وأن تمنح الجنسية لجميع المجردين والمكتومين والمحرومين منها،لطالما أنها تعتبر مشكلة الاحصاء بجوهرها تقنية وثغرات لا خلفيات أو ابعاد سياسية لها،لكن مضت سنوات على تلك الوعود والتوصيات من غير أن تترجم الى فعل وواقع.ويبدو أن الحكومة السورية لم تكتف بغضب الطبيعة على سكان الجزيرة السورية وبمخاطر الجفاف الذي ضاعف من محنة أبناءها وتسبب بنزوح نحو ربع مليون شخص من أبناء محافظة الحسكة الى دمشق والمحافظات الأخرى بحثاً عن لقمة العيش،حتى بادرت(الحكومة) الى اصدار المرسوم 49 في العاشر من أيلول 2008 الذي وضع قيودا صارمة على حقوق التملك و الرهن و الإيجار للعقارات في المناطق الحدودية التي أدرجت فيها جميع مناطق محافظة الحسكة،الأمر الذي تسبب في شل وتكبيل النشاط التجاري والخدمي في قطاع تجارة العقارات والبناء الذي يشكل أهم واكبر سوق عمل لأبناء المحافظة في ظل التراجع الكبير لفرص العمل في القطاع العام (قطاع الدولة) وشح المواسم الزراعية بسبب الجفاف.فقد تسبب هذا المرسوم المجحف في اتساع دائرة الفقر والبؤس الاجتماعي والانساني وارتفاع نسبة البطالة وتسريع حركة الهجرة والنزوح من المحافظة.


أن تعثر حل قضية المجردين من الجنسية وقد مضى عليها قرابة نصف قرن من الزمن، رغم الرسائل الايجابية التي بعثت بها القيادة السورية الى الأكراد السوريين في السنوات الأخيرة، بدأ يثير الشكوك من جديد بنية الحكومة وبجدية حزب البعث الحاكم بمعالجة هذا الملف والبحث عن مخارج وحلول وطنية ديمقراطية لمشكلة الأقليات القومية في البلاد.في حين أن المصلحة الوطنية تقتضي حل هذه المشكلة على قاعدة المساواة و الاعتراف الدستوري بالتعددية القومية.كذلك معالجة الآثار والمضاعفات السلبية،المادية والمعنوية، للقوانين والاجراءات الاستثنائية الخاصة بمحافظة الحسكة (قانون الاحصاء لعام 1962 والحزام العربي والمرسوم 49) وذلك من خلال التعويض لكل من تضرر منها من السوريين وبغض النظر عن قوميتهم.اذ، ليس من الوطنية والديمقراطية بشيء استمرار قوانين التمييز والتفضيل بين المواطنين السوريين على أساس قومي. فمثل هذه القوانين والاجراءات تنتقص من حقوق المواطنة لبعض مكونات المجتمع السوري،وتتناقض مع المفاهيم الصحيحة للوطنية كما أنها تتنافى مع مبدأ الشراكة الحقيقة في الوطن.


سليمان يوسف يوسف.... سوريا
مهتم بقضايا الأقليات
[email protected]