في شهر سبتمبر/ أيلول من عام 2007، وبعد أقل من ثلاثة أشهر على استيلاء حركة حماس على السلطة في قطاع غزة، أضفت إلى كتابي quot;سنوات الأملquot; الذي كان على وشك الإصدار، فصلاً ختامياً عن التطورات الخطيرة الجارية على الساحة الفلسطينية. في نهاية ذلك الفصل ذكرت التالي:

quot; تقف فلسطين اليوم، أو القليل ممّا تبقى منها، وشعبها وقضيتها ومستقبلهم جميعاً، في بؤرة اليأس المطلق، على المدى المنظور، فيما يتعلق بإمكانية تحقيق تحسّن ملموس للوضع المعيشي والإنساني المؤلم لشعبها أو قضيتها التي ضحّى من أجلها هذا الشعب بأعز ما يمكن أن يقدم من تضحيات. كان ذلك الأمل مجرّد لمحة مرّت في سنوات سابقة من الزمن تضافرت لإخفاته عوامل كثيرة وقوية كان الاختلاف الفلسطيني، والرغبة في النفوذ والتفرّد، أهمها وأكبرها تأثيراً... لقد تمكّنت حركتا فتح وجماس من تحقيق ما عجزت قوات الاحتلال البريطاني والإسرائيلي عن تحقيقه خلال حوالي قرن من الزمن، حيث كرّست كلاهما عمليّاً الفصل النهائي بين جزئي الوطن الفلسطيني الصغير. وإذا كانت حركة حماس قد ساهمت في ذلك بتصرفها قصير النظر بالسيطرة بالقوة المجردة على قطاع غزة، فإن قيادة الرئيس عباس قد أخفقت أيضاً، بقصر نظر آخر، في محاولة إعادة اللحمة لجزئي هذا الوطن، الأمر الذي سوف يزيد من تكريس هذا الانفصال بمرور الأيام والزمن... أشعر اليوم بالحزن والأسى حين تقودني قرائتي للواقع وتوقعاتي، التي أرجو ألاّ تتحقق، أن السلطة الفلسطينية لن تتمكّن، في المدى المنظور، ولا حركة فتح، ولا الرئيس عباس أو أي رئيس فلسطيني آخر من خارج حركة حماس، استعادة السيطرة أو الوجود في قطاع غزة. كما لن تتمكن حركة حماس أو رئيس الوزراء هنية أو أي رئيس وزراء آخر من حركة حماس من إيجاد موطئ قدم له في الضفة الغربية. لقد تكرّس الانفصال الجغرافي والسياسي والنفسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة. ولسوف يحتاج الأمر، بمرور الزمن، لمعجزة لإيجاد مجرد صيغة جديدة لعلاقة سلمية بين هذين الجزئين المتبقيين للفلسطينيين
إن أكثر ما يؤلمني اليوم هو أن تطور الأحداث، منذ أن كتبت تلك التوقعات منذ حوالي سنتين، لم يجعلني سعيداً بأن أكون قد أخطئت في تلك التوقعات. والسؤال الأهم اليوم، مثلما كان منذ سنتين، هو لماذا تحتاج حركتي فتح وحماس إلى quot;وسيطquot; متطوع لتحقيق المصالحة بينهما؟، ولماذا يحتاجان لشهود وضامنين؟ إن السبب في ذلك، ببساطة شديدة، هو فقدان الثقة المتبادلة بينهما. ولماذا انعدمت الثقة المتبادلة بينهما بشكل يبيّنه التذبذب في المواقف والتصعيد للمطالب والتبريرات الواهية، التي أصبحت سمة مسلسل طويل، للتهرب من استحقاقات المصالحة الوطنية؟ إنني أجرؤ أن أعزو ذلك لسبب واضح، هو أن حركتي فتح وحماس تدركان على وجه اليقين استحالة تحقيق المصالحة بينهما، وقد أبعد اكثر من ذلك للقول بانهما قد فقدا كلاهما القدرة على تحقيق ذلك، لأن قرار المصالحة الوطنية الفلسطينية لم يعد ضمن ولاية قيادتي التنظيمين لأسباب عديدة، بعضها موضوعي وبعضها نفسي وأقواها خارجي.

أول تلك الأسباب هو التاريخ الدامي بين هذين التنظيمين الوطنيين، أكثر من ربع قرن من الزمن قد مرت في تجاذب وتراشق كلامي، وولوغ في الدماء، وحجز للحريات، وعزل سياسي، وذكريات أليمة لاغتيالات متبادلة واستفراد بالسلطة من كل من التنظيمين في أمكنة وأزمان مختلفة. لقد خلّف كل ذلك تراثاً من الكره والحقد والضغينة لم تستطع الدماء المشتركة ولا العدو الواحد ولا الضرورة الوطنية تجاوزها. إن الروايات التي تروى اليوم عمّا يجري في قطاع غزة من انتهاكات جسدية ونفسية من قبل quot;حكومة غزة المقالةquot; والأجهزة الأمنية التابعة لحركة حماس لأعضاء ونشطاء حركة فتح لا يوازيها بشاعة سوى ما يتردد عمّا تقوم به quot;السلطة الفلسطينيةquot; وأجهزة الأمن التابعة لها في الضفة الغربية. إن من المحزن أن يكون بند إطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين من السجون الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة هو أهم البنود المطروحة في جهود المصالحة الفلسطينية وأهم البنود المطروحة أيضاً في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية.
والسبب الثاني في معضلة فشل جهود المصالحة الوطنية الفلسطينية هو الاختلاف، وربما التناقض والتعارض، بين البرنامجين، السياسي والمجتمعي، لكل من التنظيمين، رغم تشاركهما تماماً في الثوابت الفلسطينية ( الدولة المستقلة وعاصمتها القدس، وإزالة المستوطنات، وعودة اللاجئين، والمياه ووقف تهويد القدس) بعد أن تبنّت حركة حماس مؤخراً مطلب الدولة الفلسطينية المستقلة على كافة الأراضي الفلسطينية في تحوّل مهم عن شعارها السابق في المطالبة بفلسطين التاريحية. تتبنى السلطة الفلسطينية التي تشكل حركة فتح عمودها الفقري لتحقيق هذه التوابت الفلسطينية برنامجاً سياسياً سلميّاً يرتكز على الشرعية والمبادرات الدولية والتفاوض ونبذ العنف وquot;الإرهابquot;، والاعتراف بالاتفاقيات المبرمة مع الإسرائيليين. بينما، من جانب آخر، نجحت quot;الحكومة المقالةquot; في كسب الثقة من المجلس التشريعي الفلسطيني، بوجود أعضاء حركة فتح في المجلس ورئاسة السيد محمود عباس لدولة فلسطين، وفق برنامج يعتمد المقاومة المسلحة وسيلة وحيدة لإدارة الصراع مع الاحتلال ودولة إسرائيل، ورفض المشاركة في المفاوضات، وعدم الاعتراف بالشرعية والمبادرات الدولية، وعدم الاعتراف بالاتفاقات السابقة الموقّعة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. ويتسائل المرء عن فرص نجاح تشكيل حكومة وحدة وطنية وفق هذين البرنامجين المتعارضين حتى النخاع.

من الطبيعي، سبباً ثالثاً وأكثر أهمية، في ظل الإنقسام العربي والإقليمي حول استراتيجية التعامل مع توسع الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي وتصاعد ممارساته المدمّرة التي تهدد ليس مستقبل وأمن وحرية الشعب الفلسطيني فحسب بل وكافة شعوب المنطقة، أن تصطف كل من حركتي فتح وحماس مع الدول والأحزاب العربية والإقليمية التي تتقارب استراجياتها في هذا الصدد مع تلك التي يتبناها كل منهما، الأمر الذي أدّى إلى وجود حلفين قويين ومتنازعين في منطقة الشرق الأوسط كما يبدو واضحاً للجميع. وحيث أن هناك قضايا أخرى هامة وأساسية في سياسات تلك الدول والأحزاب، مثل قضية الملف النووي الإيراني ومشكلة المحكمة الدولية المعلقة باغتيال رئيس الوزراء اللبناني بالنسبة لسوريا، وموضوع تنامي قوة إيران ونفوذها الإقليمي بالنسبة للولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية والعربية، وكذلك مستقبل ووضع حزب الله في لبنان، فإن الأمور قد تشابكت وتضافرت بشكل أصبح من الاستحالة التوصل لحل مقبول من جميع الأطراف لأحدى هذه القضايا، مثل المصالحة الوطنية الفلسطينية أو المسار التفاوضي الفلسطيني والإسرائيلي، دون البت في كافة القضايا الأخرى العديدة التي تفرضها مصالح دول الحلفين. ومما زاد الموضوع صعوبة أن الطرفين الفلسطينيين في كل من الحلفين، السلطة الفلسطينية وحركة حماس، هما أضعف الأعضاء واكثرها حاجة للدعم والمساعدة في هذين الحلفين مما يفرض مراعاتهما لمواقف ورغبات الدول الأعضاء الأقوى في كلا الحلفين بشأن قضايا أخرى تتعلق باهتمامات ومصالح تلك الدول. (يمكن الرجوع لمزيد من التفصيل حول هذا الموضوع إلى مقالي quot;المقاربة الجديدةquot; الذي نشر في موقع إيلاف الأليكتروني بتاريخ14/8/2009)


والسبب الرابع والأخير لمعضلة التوصل لمصالحة وطنية فلسطينية يتعلق بالمصالح والامتيازات والنفوذ، ليس الحزبية والفصائلية فحسب بل والشخصية أيضاً. قديماً قيل أن السلطة مغرية، ولا يمكن أن يكون هذا القول أكثر صدقاً منه الآن. بعد حرمان طويل، بعضه كان ذاتي القرار، من المشاركة في الحياة السياسية الفلسطينية وتحمّل أعباء المسئولية التنفيذية والإدارية في الوطن الفلسطيني، استطاعت حركة حماس بتوليفة من الشرعية والحسم العسكري، من تحمل مسئولية السلطات الثلاث في قطاع غزة، وهي تعتبر ذلك حقها المشروع وفقاً للانتخابات التشريعية ونتيجة لما تعتقد أنه فشل السلطة الفلسطينية في معالجة ملفات الحرب والسلام والأمن والاقتصاد خلال إثني عشر عاماً. وتتمتع حركة حماس اليوم وأعضائها، في قطاع غزة على الأقل، بامتيازات وتفرّد يكاد يكون كاملاً في تقرير الأمور، وهي القيادة والوزراء وكبار الضباط ومسئولي الأمن والمستشارين والمبعوثين دون أن ينازعهم أحد.

تتمتع أيضاً السلطة الفلسطينية وحركة فتح في الضفة الغربية، التي تشكل حوالي سبعة أمثال مساحة قطاع غزة، بنفس هذه المزايا والتفرّد، مضافاً إليها الإعتراف العربي والدولي بشرعية تمثيلها، أي السلطة الفلسطينية، للشعب الفلسطيني ليس بالضفة الغربية فحسب ولكن في قطاع غزة أيضاً. وتذهب لخزينة السلطة الفلسطينية كافة المساعدات والدعم المقدمة من الدول الأجنبية والمنظمات الدولية ومعظم المساعدات العربية، وبالرغم من ذلك فهي لا زالت ترنو إلى سنوات سيطرتها على القطاع، وترى أن شرعية حماس قد زالت بسبب فشلها في إدارة قطاع غزة واستمرار معاناة المواطنين الفلسطينيين هناك.

في ظل هذا الوضع الذي يبدو فيه أن لا إمكانية لتنازل أي من القطبين الفلسطينيين عمّا يعتقد أنه حقه الشرعي، تبدو إمكانية التوصل لاتفاق مصالحة فلسطينية أو تشكيل حكومة وحدة وطنية أو أي صيغة أخرى للتفهم والتفاهم والتعاون شبه مستحيلة. وعلى العكس يبدو أن الأمور مرشحة لمزيد من القطيعة والاختلاف.

يهدد الرئيس عباس اليوم بنفاذ صبر وتصميم كبير بعزمه على إصدار مرسوم يحدد الأشهر الأولى من العام القادم موعداً لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية الفلسطينية، دون أن، أو ربما بسبب عدم التوصل لاتفاق مصالحة يحدد بموافقة كافة الأطراف السياسية الفلسطينية، ومنها حركة حماس، طبيعة وشروط وموعد هذه الانتخابات. ومن الطبيعي أن ترفض حماس مثل هذا الإجراء الرئاسي المنفرد بل ومن الطبيعي أن تحاول إفشاله، وهي قادرة على ذلك. ولا أعتقد أن حركة حماس سوف تتنازل طوعاً عن خسارة الانتخابات التشريعية في الضفة الغربية وإعادة انتخاب الرئيس عباس لفترة ثانية، أو ترحب بإمكانية تقلّص حجم تمثيلها التشريعي في قطاع غزة نفسه.

وفيما لو أصرّ الرئيس عباس على إجراء الانتخابات في الموعد الذي أعلنه دون التوصل، الذي يبدو بعيد المنال، لموافقة ومشاركة حركة حماس في الانتخابات، وقامت من ثم هذه الأخيرة بمنع إجراء الانتخابات في قطاع غزة، كما هو متوقع، فهل ستكون نتيجة هذه الانتخابات هي اختيار رئيس ومجلس تشريعي للضفة الغربية فقط. وهل ستكون خطوة حركة حماس المضادة والمتوقعة هي إجراء انتخابات لاختيار أعضاء مجلس تشريعي جديد، وربما رئيس جديد، لقطاع غزة فقط...

مروان كنفاني
كاتب فلسطيني